الأحد، 14 سبتمبر 2014

تأملات في اسم الله اللطيف

الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ الله، وعلى آلِه وصحبِه ومَن والاه، أما بعد:
فإنه لما تَقلَّبَت الأحوالُ بيوسفَ عليه الصلاةُ والسلام، وتَطوَّرَتْ به الأطوار، عَرَف أنّ هذه الأشياءَ وغيرَها لُطفٌ من لُطفِ اللهِ له، فاعترفَ بهذه النعمةِ فقال: ﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾[يوسف: 100].
وهذا من أَعظمِ نِعَمِ اللهِ على العبد، أنْ يَعرِضَ أحوالَه التي تمرُّ به على معاني أسماءِ الله الحسنى، وصفاتِه العلى؛ فإنّ هذا له فائدتان:
الأولى: زيادةُ الإيمان.
الثانية: سهولةُ تلقي المصائبِ المؤلمة، وهذا يزدادُ حين يبلُغُ العبدُ منزلةَ الرضا عن الله، بحيث يوقِنُ أنَّ اختيارَ اللهِ خيرٌ مِن اختيارِه لنفسِه.
أيها المؤمنون!
إنّ مِن أسماءِ اللهِ الحسنى التي تَكرَّرَ ذِكرُها في كتابِ الله تعالى، ولها أثرُها البالغُ في حياةِ العبد -لمن فقه معناها وعمل بمقضاها-: اسمُ اللهِ اللطيف، الذي تمّدّحَ سبحانه به في مواضعَ مِن كتابِ الله، منها: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الأنعام: 103] ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: 14] فكيف نعيشُ مع هذا الاسم؟ وما آثارُه الإيمانيةُ علينا؟
إنّ التأمُّلَ في آثارِ لطفِه بعبادِه، هو الذي يُجيبُ على هذه الأسئلة، والتي تعرَّضُ لها العلامة السعدي : ، حين بيّن شيئاً من آثارِ لطف اللهِ بعباده فقال:
"ومِن لطفِه بعبادِه: أنه يُقدّر أرزاقَ عبادِه، بحسَبِ علمِه بمصلحتِهم لا بحسَبِ مراداتِهم، فقد يريدون شيئاً وغيرُه أصلح؛ فيُقدِّرُ لهم الأصلحَ وإن كرهوه؛ لطفاً بهم وبِرّاً وإحساناً ﴿اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ﴾[الشورى: 19]، ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾[الشورى: 27].
ومِن لطفِه بهم: أنه يُقدِّرُ عليهم أنواعَ المصائب، وضروبَ المحنِ، والابتلاءِ بالأمرِ والنهيِ الشاق؛ رحمةً بهم ولطفاً، وسَوْقاً إلى كمالِهم وكمالِ نعيمهم: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾[البقرة: 216].
ومِن لطفه بعبِده: أن يُقدّرَ له أن يتربّى في ولاية أهلِ الصلاحِ والعلمِ والإيمان، وبين أهلِ الخير؛ ليَكتَسِبَ مِن أدبِهم وتأديبِهم، ولينشأَ على صلاحِهم وإصلاحِهم، كما امتنَّ الله على مريمَ في قوله تعالى: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾[آل عمران: 37].
ومن ذلك: إذا نشأَ بين أبوين صالحين، وأقاربَ أتقياء، أو في بلدِ صلاح، أو وفّقه الله لمقارنةِ أهلِ الخيرِ وصحبتِهم، أو لِتربيةِ العلماءِ الربانيين؛ فإنّ هذا مِن أعظمِ لطفِه بعبدِه، فإنّ صلاحَ العبدِ موقوفٌ على أسبابٍ كثيرة: منها؛ بل مِن أكثرِها وأعظمِها نفعاً: هذه الحالة، ومِن ذلك إذا نشأَ العبدُ في بلدٍ أهلُهُ على مذهبِ أهلِ السنةِ والجماعةِ فإنَّ هذا لُطفٌ له.
ومِن لطفِ اللهِ بعبدِه: أنْ يجعلَ رزقَه حلالاً في راحةٍ وقناعة، يحصلُ به المقصود، ولا يَشغَلُه عما خُلق له من العبادةِ والعلمِ والعمل، بل يُعينه على ذلك ويُفرّغه، ويُريحُ خاطرَه وأعضاءَه، ولهذا مِن لُطفِ اللهِ تعالى لعبدِه أنه ربما طَمِحتْ نفسُه لسببٍ من الأسباب الدنيوية، التي يَظُنّ فيها إدراكَ بغيتِه، فيَعلَمُ اللهُ تعالى أنها تَضرُّه وتَصُدُّه عما ينفعه؛ فيحولُ بينَه وبينها، فيظلّ العبدُ كارهاً وهو لم يدرِ أنّ ربَّه قد لَطَفَ به، حيث أبقى له الأمرَ النافع، وصرفَ عنه الأمرَ الضار، ولهذا كان الرضى بالقضاء في مثل هذه الأشياء من أعلى المنازل.
ومِن لطفِ الله بعبدِه - إذا قَدَّر له طاعةً جليلةً لا تُنال إلا بأعوان -: أن يُقدِّرَ له أعواناً عليها ومساعدين على حملِها، قال موسى عليه السلام: ﴿وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا﴾[طه: 29 - 34]، وكذلك امتنّ على عيسى بقوله: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾[المائدة: 111]، وامتَنَّ على سيد الخلق في قوله: ﴿هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾[الأنفال:62].
ومِن لُطفِ اللهِ بعبدِه: أنْ يُعطيَ عبدَه - من الأولادِ والأموالِ والأزواج - ما به تقرّ عينُه في الدنيا، ويحصُلُ له به السرور، ثم يبتليه ببعضِ ذلك، ويأخذُه ويُعوّضُه عليه الأجرَ العظيمَ إذا صبرَ واحتَسَب، فنعمةُ اللهِ عليه بأخذِه على هذا الوجهِ أعظمُ من نِعمتِه عليه في وجودِه، وقضاءُ مجرد وطَرِه الدنيوي منه. وهذا أيضاً خيرٌ وأجرٌ خارجٌ عن أحوالِ العبدِ بنفسه، بل هو لُطفٌ مِن الله له، قيّض له أسباباً أعاضَه عليها الثوابَ الجزيل، والأجرَ الجميل.
ومِن لُطفِ الله بعبدِه: أن يبتليَه ببعضِ المصائب، فيوفِّقَه للقيامِ بوظيفةِ الصبرِ فيها؛ فيُنيلُه درجاتٍ عاليةً لا يدركُها بعملِه، وقد يُشدِّد عليه الابتلاءَ بذلك، كما فُعِل بأيوب عليه السلام، ويوجِد في قلبه حلاوةَ روحِ الرجاء، وتأميلَ الرحمة، وكشفَ الضر، فيُخفَّف ألمُه، وتنشطُ نفسُه، ولهذا من لُطفِ الله بالمؤمنين: أنْ جَعَل في قلوبِهم احتسابَ الأجر؛ فخفَّتْ مصائبُهم، وهان ما يلقون من المشاقِّ في حصولِ مرضاتِه.
ومِن لُطفِ الله بعبدِهِ المؤمنِ الضعيف: أن يعافيَه من أسبابِ الابتلاءِ التي تُضعِف إيمانَه، وتُنقِصُ إيقانَه، كما أنّ مِن لُطفِه بالمؤمنِ القوي: تهيئة أسبابِ الابتلاءِ والامتحانِ ويعينُه عليها، ويحمِلُها عنه ويزدادُ بذلك إيمانُه، ويعظُمُ أجرُه، فسبحان اللطيفِ في ابتلائِه وعافيتِه، وعطائِه ومنعِه.
ومِن لطفِ الله بعبدِه: أنْ يسعى لكمالِ نفسِه مع أقربِ طريقِ يوصلُه إلى ذلك، مع وجودِ غيرِها من الطُرُقِ التي تبعُدُ عليه، فيُيَسّر عليه التعلُّم مِن كتابٍ أو مُعلمٍ يكونُ حصولُ المقصودِ به أقربَ وأسهل، وكذلك يُيسرُه لعبادةٍ يفعلُها بحالةِ اليسرِ والسهولة، وعدمِ التعويقِ عن غيرِها مما ينفعُه، فهذا من اللطف.
ومِن لُطفِ اللهِ تعالى بعبدِه: أنْ يجعلَ ما يبتليه به مِن المعاصي سبباً لرحمتِه، فيفتحُ له عند وقوعِ ذلك بابَ التوبةِ والتضرع، والابتهالِ إلى ربه، وازدراءِ نفسِه واحتقارِها، وزوالِ العُجبِ والكبرِ من قلبِه ما هو خيرٌ له من كثيرٍ من الطاعات.
ومِن لطفِه بعبدِه الحبيبِ عنده: إذا مالتْ نفسُه مع شهواتِ النفسِ الضارة، واسترْسلَتْ في ذلك؛ أن يُنَغِّصَها عليه ويُكدِّرَها، فلا يكاُد يتناولُ منها شيئاً إلا مَقروناً بالمكدِّرات، محشوّاً بالغصص؛ لئلا يميلَ معها كلَّ المَيل، كما أنّ مِن لُطفه به أن يُلذِّذ له التقرُّبات، ويُحَلِّي له الطاعات؛ ليَميلَ إليها كلَّ المَيل.
ومِن لَطيفِ لطفِ اللهِ بعبدِه: أن يأجُرَه على أعمالٍ لم يعملْها بل عزَمَ عليها، فيعزِمُ على قُربةٍ من القُرَب ثم تَنحلُّ عزيمتُه لسببٍ من الأسبابِ فلا يفعلُها، فيحصُلُ له أجرُها، فانظر كيف لَطَفَ اللهُ به! فأوقَعَها في قلبِه، وأَدارَها في ضميرِه، وقد عَلِمَ تعالى أنه لا يفعلُها؛ سَوقاً لبِرِّهِ لعبدِه وإحسانِهِ بكلِّ طريق. وأَلطَفَ من ذلك: أنْ يُقيِّضَ لعبدِهِ طاعةً أخرى غيرَ التي عَزَمَ عليها، هي أنفعُ له منها؛ فيَدَعَ العبدُ الطاعةَ التي تُرضي ربَّه لطاعةٍ أخرى هي أرضى لله منها، فتحصُلُ له المفعولةُ بالفعل والمعزومُ عليها بالنية، وإذا كان من يُهاجِرُ إلى اللهِ ورسولِه، ثم يُدرِكُهُ الموتُ قبل حصولِ مقصودِه قد وقَعَ أجرُهُ على الله - مع أنّ قَطعَ الموتِ بغيرِ اختياره - فكيف بمن قَطَعت عليه نيتُه الفاضلةُ طاعةً قد عَزَمَ على فعلِها؟! وربما أدار اللهُ في ضميرِ عبدِه عِدَّةَ طاعات، كلُّ طاعةٍ لو انفردتْ لفعلَها العبد؛ لكمالِ رغبتِه، ولا يمكنُ فعلُ شيءٍ منها إلا بتفويتِ الأخرى، فيوَفِّقُهُ للموازنةِ بينها، وإيثارِ أفضلِها فعلاً، مع رجاءِ حصولِها جميعهاً عَزْماً ونيةً.
وأَلْطفُ من هذا: أنْ يُقدِّرَ تعالى لعبدِه ويبتليهِ بوجودِ أسبابِ المعصية، ويُوفِّرَ له دواعيها، وهو تعالى يعلمُ أنه لا يفعلُها؛ ليكونَ تَرْكُهُ لتلك المعصيةِ التي توفَّرَتْ أسبابُ فِعلِها مِن أكبرِ الطاعات، كما لَطَفَ بيوسفَ عليه السلام في مُراودةِ المرأة، وأحدُ السبعةِ الذين يُظلُّهمُ اللهُ في ظلِّه يومَ لا ظل إلا ظله: رجلٌ دعتْه امرأةٌ ذاتُ منصبٍ وجمال فقال: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ.
ومِن لُطفِ اللهِ بعبدِه: أنْ يُقدِّرَ خيراً وإحساناً مِن عبدِه، ويُجرِيَه على يدِ عبدِه الآخر، ويجعله طريقاً إلى وصولِه للمُستَحِق، فيُثِيبُ اللهُ الأولَ والآخِرَ.
ومِن لُطفِ اللهِ بعبدِه: أن يُجرِيَ بشيءٍ مِن مالِه شيئاً من المنافعِ وخيراً لغيرِه؛ فيُثيبهُ من حيث لا يحتسِبُ، فمَن غَرَسَ غرساًَ، أو زَرَعَ زرعاً؛ فأصابت منه رُوحٌ من الأرواحِ المحترمةِ شيئاً، آجرَ اللهُ صاحبَه وهو لا يدري! خصوصاً إذا كانتْ عنده نيةٌ حسنة، وعَقَدَ مع ربِّه عقْداً في أنه مهما تَرتّب على ماله شيءٌ من النفع، فأسألُك يا ربِّ أنْ تأجرَني، وتجعلَه قربةً لي عندك، وكذلك لو كان له بهائمُ انْتُفِعَ بدَرِّها ورُكُوبِها والحَمْلِ عليها، أو مساكنُ انْتُفِعَ بسُكناها ولو شيئاً قليلاً، أو ماعونٌ ونحوُه انْتُفِع به، أو عينٌ شُرِبَ منها، وغيرُ ذلك - ككتابٍ انْتُفع به في تعلُّمِ شيءٍ منه، أو مُصحفٍ قُرئ فيه - والله ذو الفضل العظيم.
ومِن لُطفِ اللهِ بعبدِه: أنْ يفتحَ له باباً من أبوابِ الخيرِ لم يكن له على بال، وليس ذلك لقلةِ رغبتِه فيه، وإنما هو غفلةٌ منه، وذهولٌ عن ذلك الطريق، فلم يَشعُرْ إلا وقد وَجَدَ في قلبِهِ الداعيَ إليه، واللافتَ إليه؛ ففَرِحَ بذلك، وعَرَفَ أنها مِن أَلطافِ سيِّدِه، وطُرُقِه التي قَيّضَ وصولهَا إليه؛ فصَرَفَ لها ضَميرَه، ووجّه إليها فِكْرَه، وأَدرَكَ منها ما شاء اللهُ وفَتَحَ" اهـ كلامه : .
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المصدر: المقال في أغلبه ملخص من كتاب "المواهب الربانية" لابن سعدي (بتصرف) ، ص: (119) وما بعدها.
موقع تدبر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

رأيك يهمنا