(( سورة
طه ))
تمهيد للسورة:
يقول ابن القيم رحمه الله عن شيخه شيخ الإسلام ابن
تيمية: والله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش،
والحبس، والتهديد، والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً، وأشرحهم صدراً،
وأقواهم قلباً، وأسرَّهُم نفساَ، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا
الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه، ونسمع
كلامه، فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحاً، وقوة، ويقيناً، وطمأنينة، فسبحان من أشهد
عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فآتاهم من روحها، ونسيمها،
وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها ([1]
) .
فما
السر الذي جعل كدر الدنيا عند شيخ الإسلام اين تيمية سعادة؟!
هذا
ما سنتعرف عليه في السورة التي بين أيدينا اليوم وهي سورة ( طه ).
*************
السورة
مكية تتسم بطابع القرآن المكي الذي يعنى بتصحيح العقيدة المنحرفة، ويفصل في ذكر
البلاء والابتلاء، ويأمر بالصبر عليه، نزلت هذه السورة بعد سورة مريم وقبل سورة
الواقعة، وترتيبها في المصحف بعد سورة مريم وقبل سورة الأنبياء، وهي السورة
الخامسة والأربعون في ترتيب نزول السور، والسورة العشرون في ترتيب المصحف ([2] ) .
*****
أحوال النزول التي نزلت فيها السورة:
نزلت هذه السورة في
السنة الرابعة أو الخامسة للهجرة،والمسلمون في عناء شديد من أذى الكفار.
وقد جاء أن قراءة عمر
لمطلعها كان سبباً في إسلامه ([3] ) ، فما السر الموجود في
هذه السورة والذي جعل عمر بن الخطاب ذا البأس الشديد يتنازل عن مبادئه ودينه
ويُسلم؟! ونحن نعجز عن التنازل عن معصية.
*************
موضوع السورة:
هذا المنهج لم يأت حتى يشقى الناس به إنما هو منهج
يضمن السعادة لمن تبعه وطبّقه وإنما هو تذكرة وهو سبب السعادة في الدنيا والآخرة
فلا يعقل أن يكون المؤمن شقياً كئيباً مغتمّاً قانطاً من رحمة الله مهما واجهته من
مصاعب ومحن في حياته وخلال تطبيقه لهذا المنهج الربّاني فلا بد أن يجد السعادة
الأبدية بتطبيقه. وهذا هو هدف سورة طه. وهذا المنهج الذي أنزله الله تعالى لنا
إنما جاء من عند (الرحمن) فكيف يعقل أن يكون فيه شقاؤنا. وكلنا يعلم معنى كلمة
الرحمن. وقد تكررت في السورة كثيراً فهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما يرحم خلقه
أجمعين.
فالمؤمن والقائم على منهج الله تعالى في سعادة ولو
كان في وسط المحن فالسعادة والشقاء مصدرها القلب وقد يعتقد البعض أن من سيلتزم
بهذا المنهج والدين سيكون شقياً لا يخرج من بيته ولا يضحك ولا يخالط الناس وهذا هو
السائد في أيامنا هذه وقد يكون هذا السبب الوحيد الذي يمنع الكثير من المسلمين من
تطبيق المنهج لأن عندهم فكرة مغلوطة عن حقيقة السعادة والشقاء في تطبيق منهج الله.
سحرة فرعون لمّا آمنوا بالله ورغم أنهم
تعرضوا للأذى من فرعون إلا أنهم علموا أنهم سيحصلون على السعادة الحقيقية بتطبيق
المنهج في الدنيا والآخرة (قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ
الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي
هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)
(وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ
الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى) مع أن الموقف
كان شديداً في مواجهة فرعون لكنهم أحسوا بالسعادة التي تغمرهم باتباع الدين. أما
فرعون فكان في شقاء حياً وميتاً وعندما تقوم الساعة أدخوا آل فرعون أشد العذاب.
إذن موسى والسحرة كانوا سعداء وفرعون
هو الشقي وذلك لأنهم استشعروا السعادة في قربهم من الله تعالى وتطبيق منهجه الذي
فرضه.
التعقيب على القصة: (مَنْ
أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا * خَالِدِينَ
فِيهِ وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا ) تعلّق الآيات على مفهوم
السعادة وتعطي نموذج لمن لا يطبق منهج الله تعالى كيف سيكون في شقاء (وَعَنَتِ
الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا * وَمَن
يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا
)
قصة آدم وحواء : السعادة في المنهج: تعرض الآيات نموذج آدم عليه السلام، وكيف أن السعادة الحقيقية هي في طاعة
الله تعالى فلا شقاء (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ
وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى)
الشقاء بترك المنهج: (قَالَ
اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم
مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) إلى (قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ
الْيَوْمَ تُنسَى) . ونلاحظ
تكرار كلمة يشقى في السورة كثيراً.
فالله تعالى يقول أن (فمن اتبع
هداي فلا يضل ولا يشقى) وهذا
كلام الله أفلا نصدقه؟ يجب أن نصدقه لأنه القول الحق وأنه من يَعرض عن ذكر ربه
سيكون شقياً في الدنيا والآخرة. فعلينا أن نتبع هدى الله تعالى لنحظى بسعادة
الدارين فالمؤمن في سعادة في الدنيا وسعادة في الآخرة.
التعقيب الأخير: رضى الله تعالى هو أعلى درجات السعادة
التي علينا أن ندركهها (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ
قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ
وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى)([4]
)
.
*************
المناسبة بين اسم
السورة والمقصد:
هذه
السورة اسمها ( طه ) وهو الاسم التوقيفي الذي جاء في الأحاديث والآثار، وبيان
ارتباطه بمحور السورة ينظر إليه من وجهين:
الأول:
أنهما حرفان من الأحرف المقطعة التي لا يعلم معناها.
الثاني:
أنهما حرفان لهما معنى في استعمال العرب إذ يراد بهما ( يا رجل)، أو ( ياحبيبي ).
فأما
على الوجه الأول: فإن جمهور المفسرين يرون أن الحكمة من ورود الحروف المقطعة في
أوائل بعض السور هو الدلالة على إعجاز القرآن،وقد ذكر الطبري أن الحكمة منها والله
أعلم :( ليفتح لاستماعه أسماعَ المشركين - إذ تواصَوْا بالإعراض عن القرآن- حتى إذا
استمعوا له، تُلي عليهم المؤلَّفُ منه) ([5] ) .
وعليه
يمكننا القول بأن هذه التسمية في هذه السورة له علاقة بمحورها، فقد تضمنت السورة
جوانب متعددة من أن ما في هذا القرآن المعجز هو السعادة.
أما
على الوجه الثاني: فإن العلاقة جلية بينه وبين محور السورة، ذلك أن ( طه ) أول
كلمة ابتدئت بها السورة وهي تعني خطاباً لطيفاً للنبي صلى الله عليه وسلم إذ
معناها على لسان العرب ( يا رجل) أو ( يا حبيبي ) لتكون تمهيداً لما سيعقبها من
ظلال اللطف والعناية في ثنايا آيات السورة سواء فيما يتعلق بالنبي صلى الله عليه
وسلم نفسه، أو فيما يحكيه له ربه من قصص الأنبياء التي تضمنت عناية الله عز وجل،
ففي السورة بيان رحمة الله عز وجل بالبشر حيث أنزل إليهم منهجاً من عنده، من تمسك
به سعد ومن أعرض عنه خاب وخسر ([6] ) .
*************
المناسبة بين افتتاحية
السورة وخاتمتها:
أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في آخر السورة أن يقول
للمشركين قولاً خاتماً بعد الإنذار والإعذار، فقال له:{قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا
فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَىٰ }
ولقد علموا ذلك يقيناً يوم فتح مكة المشرفة، واشتد اغتباطهم بالإسلام، ودخلوا رغبة
في الحلم والكرم، ورهبة من السيف والنقم، وكانوا بعد ذلك يعجبون من توقفهم عنه،
ونفرتهم منه، وهذا معناه أنه صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه هم السعداء الأغنياء
الراضون في الدنيا والآخرة، وهو عين قوله:{مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ}.
ويقول سيد قطب: في قوله تعالى:{قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا
فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَىٰ }
((بذلك تختم السورة التي بدأت بنفي الشقاء
عن النبي صلى الله عليه وسلم من تنزيل القرآن وحددت وظيفة القرآن {إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ} والختام يتناسق مع
المطلع كل التناسق، فهو التذكرة الأخيرة لمن تنفعه التذكرة، وليس بعد البلاغ إلا
انتظار العاقبة، والعاقبة بيد الله)) ([7] ) .
*************
المناسبة بين افتتاحية
السورة وخاتمة السورة التي قبلها:
يقول البقاعي:( لما ختم الله تعالى سورة مريم بالإخبار عن إهلاك القرون وإبادة الأمم
بعد إنذار القوم اللدّ ولم يختم سورة من السور الماضية بمثل ذلك كان ربما أفهم أنه
انقضت مدتهم، وحل بوارهم، وأتى دمارهم، وأنه لا يؤمن منهم أحد –لما فيهم من اللدد-
إلا من قد آمن، فحصل بذلك من الغم والحزن مالا يعلم قدره إلا الله لأن الأمر كان
في ابتدائه، ولم يسلم منهم إلا نفر يسير جدا، فسكّن سبحانه الروع بقوله:{مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ } ([8] ) .
*************
المناسبة بين خاتمة هذه
السورة لمطلع سورة الأنبياء بعدها:
قال الإمام السيوطي:[أنه سبحانه لما قال:(قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا) وقال قبله:( وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن
رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى) قال في مطلع سورة الأنبياء:(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ) إشارة إلى قرب الأجل ودنو الأمل المنتظر، وفيه
أيضاً مناسبة لقوله تعالى في سورة طه:(وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ
مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ) فإن قرب الساعة يقتضي الإعراض عن هذه الحياة
الدنيا لدنوها من الزوال والفناء] ([9] ) .
*************
أبرز القضايا والمحاور
في السورة وعلاقتها بموضوع السورة:
أولاً: ملامح تتعلق
بالاعتقاد:
نزلت سورة ( طه ) لترسيخ مبادئ العقيدة في الله تعالى، من توحيد
الله تعالى، وتنزيهه عما لا يليق به:
-
إثبات العبودية له من خلال ما أوحى الله به
تعالى من قصة موسى عليه السلام، فكان التوحيد أول الأسس التي أوحى الله بها إلى
موسى (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ* إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا
فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي)، وبه ختم موسى حواره مع عبدة العجل والسامري
لما قال لهم :{ إِنَّمَا إِلَٰهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ
شَيْءٍ عِلْمًا} ([10] ) .
لأن إخلاص العبادة لله هو الأساس الذي تنبني عليه العبادات،
والعبادات من دونه لا تنفع صاحبها.
-
ووصف الله تعالى نفسه بصفات الكمال والجمال،
ووصف أسماءه بأنها الأسماء الحسنى بقوله تعالى:{اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ} ([11] ) .
لأنه لا يعين شيء على الثبات في الدين مثل العلم بالله،
من عرف الله حقاً نال لذة السجود، شعر بلذة التسبيح، يستحيي من الله أن يرجع بعد
أن وصل ([12]
) .
-
وأما الربوبية فقد جاء التأكيد عليها في السورة،
حيث تكرر ذكر لفظ ( الرب ) 27 مره،عدا ما جاء في السورة من معاني الربوبية كالرحمة
بالخلق، وخلق السماوات والأرض، ومنن الله على موسى، وتمهيد الأرض، وإنزال المطر من
السماء، والإحياء والإماتة والبعث، ونصر المؤمنين، وتأييدهم، والمغفرة لهم، وإهلاك
أعدائهم، ونسف الجبال وغير ذلك مما يشهد أنها ليست في مقدور أحد من الخلق، وهذا –وإن
كان المشركون لا ينكرونها- إلا أن التركيز على إثباتها إنما كان لأجل الاحتجاج
عليهم، إذ كيف يقرون بربوبيته ثم يتركون عبادته وهو سبحانه المتصف بصفات الربوبية،
فكانت هذه دعوة لهم إلى إفراد الله سبحانه بالعبادة، بعد أن أقروا له بالربوبية، وهذا
واضح فيما حكاه الله تعالى في حوار موسى مع فرعون لإثبات الربوبية لله تعالى وما
حشده موسى من الأدلة على ذلك، لإقناع رجل قد تجاوز حد الإنكار إلى ادعاء الربوبية
لنفسه، بل والألوهية أيضا ([13] ) .
ولفظ الربوبية أيضاً يدل على الرعاية والعناية فيدعو الله الناس
بهذا اللفظ ليستجيبوا لأوامره.
-
واعتنت السورة عناية كبيرة بتقرير الساعة (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ
أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ) (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا
عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَٰنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا )،
والبعث (وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ)، والحشر (يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا) (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ)، والحساب (وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ
مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا) والجنة (وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ
عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىٰ * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَٰلِكَ جَزَاءُ مَن تَزَكَّىٰ)، والنار (إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ
لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ) (إِنَّا قَدْ
أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَىٰ مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ) (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ) وهو ما أصر على
إنكاره المشركون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ([14] ) .
لأنه على قدر تصديق العبد بوعيد الله يأتي المؤمن الطاعات ويُحجم
عن المعاصي، وما ساد من ساد من المؤمنين والصالحين عبر التاريخ الإسلامي كله إلا
بإيمانهم بوعد الله.
فالصحابة رضوان الله عليهم تصديقهم بوعد الله جعلهم يتسابقون إلى الشهادة،
كما قال الصحابي الجليل عمير الأنصاري: ما بيني وبين هذه الجنة إلا التمرات، ثم
قال: بخ بخ وأخذ يُقاتل، وغيره من الصحابة كثير وكلهم على هذا الطريق وكلهم كان
يسير ([15]
) .
********
ثانياً: ملامح تتعلق
بموقف المشركين من الرسالة ودلالات السورة عليها:
اختار الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم لحمل القرآن وأمر
بتبليغه للناس، فما كان من المشركين تجاه هذا الكتاب إلا الإنكار والمواجهة،
والتعنت،فطلبوا الآيات الحسية وجعلوها شرطاً لإيمانهم (وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن
رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ) وكان بعضهم يحث بعضا
على ترك الاستماع إلى القرآن الكريم، بل يدعون إلى التشويش عليه حتى لا يسمع.
ونزلت سورة (طه) في هذا الجو لتعالج الانحراف من خلال حكاية قصة
إيمان السحرة إثر معجزة موسى الحسية بعد أن كانوا مستشعرين الثقة بالنصر.
وفي السورة تتجلى أثر المعجزة القرآنية غير الحسية حيث كان مطلعها سبباً
في إسلام عمر رضي الله عنه، بعد أن كاد أن يكون ميؤسا منه.
وفي قصة موسى أيضا بيان إعراض فرعون وملأه عن الإيمان بما جاء به
موسى من البينات، وتكذيب فرعون بآية موسى (وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ
وَأَبَىٰ)، واتهامه بالسحر(قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَىٰ)، وهو نفسه ما وقع من الكفار للنبي صلى الله
عليه وسلم فقد أعرضوا عن رسالته، واتهموه بالسحر، وكذبوه.
ويبرز في السورة الاعتناء بمعجزة النبي صلى الله عليه وسلم، فأبانت
الآيات أن القرآن منزل من عند الله تعالى الذي خلق السماوات والأرض (تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ
وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى)، وأنه تعالى قد صرف فيه من الوعيد، وأن متبعه ينال سعادة الدارين
بعيداً عن الشقاء، وأن المعرض عنه هو الذي له المعيشة الضنك (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ
اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا
وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ)، وهو وحده الحامل لوزره يوم القيامة (مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا) ([16] ) .
وموقفهم هذا من القرآن هو نفسه موقف كل من يُعادي مافي القرآن من
أوامر ويرى أن السعادة والفلاح في غيره من القوانين، كما سيأتي معنا في السورة
بإذن الله.
********
ثالثاً: ملامح تتعلق
بموقف المشركين من الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالات السورة عليها:
قست قلوب المشركين فقسوا على الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يدعوا
أسلوباً أو طريقة إلا سلكوها في إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، فجمعوا له بين
الإيذاء النفسي والمعنوي والجسدي، في الوقت الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم
حريصاً أشد الحرص على إيمانهم وإنقاذهم.
ونزلت سورة ( طه ) لتعبر تصريحا وتلميحا عما لقيه النبي صلى الله
عليه وسلم من خلال الآيات التي فيها التسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، والأمر
بالصبر، فنفى الله في افتتاحيتها أن يكون تنزيل القرآن عليه شقاء، وإنما هو تذكرة
لمن يخشى، وهي دعوة لهم للتذكر والخشية، كما تضمن إشعاره صلى الله عليه وسلم
بالأنس –في غمرة أهل الشرك- لأن الله تعالى معه بعلمه إذ يعلم الجهر والسر، بل
يعلم ما هو أخفى من السر.
وفي السورة تهديد للمشركين المكذبين للرسول صلى الله عليه وسلم
المفهوم من قوله تعالى :{إِنَّا
قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَىٰ مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ} وفي قوله تعالى:{ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ
الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ} ([17] ) .
********
رابعاً:ملامح تتعلق
بموقف المشركين من المؤمنين ودلالات السورة عليها:
ولئن اشتد الأذى بالرسول صلى الله عليه وسلم فإن المسلمين قد نالهم
أيضاً من الأذى الجسدي والمعنوي عناءً كبيراً.
نزلت سورة ( طه ) بدلالات وإشارات فيها تثبيت للمسلمين على الدين،
ومن ذلك ما يلي:
·
أمر الله تعالى بإقامة الصلاة في هذه السورة (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) في الوقت الذي كان المسلمون يستخفون بها في
الشعاب.
·
حكى الله خبر تعذيب فرعون لبني إسرائيل (فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ )
ونجاتهم بالخروج من مصر، في الوقت الذي كان المسلمون يعذبون بمكة، وكأن في ذلك
إيماء إلى أن عاقبتهم ستؤول إلى النجاة، وعاقبة معذبيهم إلى الهلاك.
·
في السورة تثبيت للمؤمنين من خلال إيضاح حال
المؤمنين من السحرة الذين ثبتوا على إيمانهم غير آبهين بتوعد فرعون الشديد ([18] ) .
وموقفهم هذا هو موقف كل من يُعادي من يتمسك بهذا الدين في وقتنا
الحاضر، وفي الآيات مافيه تثبيت لهم.
*************
المناسبات بين محاور السورة، ووقفات
مع تلك المحاور وعلاقتها بموضوع السورة:
تجلى
موضوع هذه السورة في جميع محاورها وهي على النحو التالي:
المحور الأول: ( 1 – 3 ) القرآن تنزيل من
الله للسعادة ولهدي القابلين للهداية.
نفى
الله سبحانه عن نبيه جميع أنواع الشقاء في الدنيا والآخرة لأنه أنزل عليه القرآن
الذي هو سبب سعادته.
ثم
بين الله تعالى أن هذا القرآن تذكرة لمن من شأنه أن يخشى ويتأثر بالإنذار لرقة
قلبه، أو لمن علم الله تعالى أنه يخشى بالتخويف.
وهو
تنويه بالمؤمنين الذين آمنوا بأنهم كانوا من أهل الخشية ولولا ذلك لما ادّكروا
بالقرآن، وهو في الوقت نفسه دعوة لغيرهم ممن سمع هذا القرآن، أن يكونوا من أهل
الخشية ([19]
)
.
فمن
هم أهل الخشية ؟! وهل نحن منهم ؟!
أهل الخشية والإنابة هم أهل العلم الخاص؛ لأنهم يدركون ما لا يدركُه
غيرهم، ويفهمون ما لا يفهمه غيرهم، ويعرفون معرفةً لا تحصل لغيرهم، معرفةً لها
شأنها وبركاتها وفضائلها.
قد يكون
أحدهم أمياً لا يقرأ ولا يكتب، ولم يشتغل بما اشتغل به كثير من المتفقهة، لكنه عند
الله من أهل العلم، وفي ميزان الشريعة من أهل العلم، وعند الرعيل الأول والسلف
الصالح هو العالِمُ الموفَّق.
وهم بما يُوفَّقُون إليه من حسن التذكر والتفكر والفهم والتبصر يعلمون علماً عظيماً يُفني بعض المتفقهة والأذكياء من غيرهم أعمارَهم ولمَّا يحصّلوا عُشرَه.
وهم بما يُوفَّقُون إليه من حسن التذكر والتفكر والفهم والتبصر يعلمون علماً عظيماً يُفني بعض المتفقهة والأذكياء من غيرهم أعمارَهم ولمَّا يحصّلوا عُشرَه.
ذلك بأنهم يرون ببصائرهم ما يحاول غيرهم استنتاجه، ويصيبون كبد
الحقيقة، وغيرهم يحوم حولها، ويأخذون صفو العلم وخلاصته، وغيرهم يفني وقته ويضني
نفسه في البحث والتنقيب؛ فيبعد ويقترب من الهدى بحسب ما معه من أصل الخشية
والإنابة.
بل إن
أصحاب الخشية والإنابة هم أهل الخطاب الخاصّ في القرآن الكريم ، فهو للثقلين عامة،
ولأهل الخشية والإنابة خاصة؛ فلهم فيه امتياز لا يشارَكون فيه، وفضل لا يزاحمون
عليه،من التوفيق لحسن الفهم والتذكر ، والاعتبار والتبصر، والدلالة على ما يتبعون
به رضوان الله جل وعلا، وينالون به فضله ورحمته وبركاته في الدنيا
والآخرة.
قال
عبادة بن الصامت – رضي الله
عنه- وهو من أهل هذا العلم - لجبير بن نفير : ( إن شئت لأحدثنك بأوَّل
علم يرفع من الناس! الخشوع، يوشك أن تدخل مسجدَ جماعةٍ فلا ترى فيه رجلا خاشعا) رواه الدارمي والترمذي وغيرهما.
فسمَّى الخشوع علماً ، وهو كذلك، لأن الخاشع مقبل بقلبه على كلام ربه معظم له، كثير التفكر فيه والتدبر له؛ فيوفق لفهمه والانتفاع به انتفاعاً لا يحصّله من يقرأ مئات الكتب، وهو هاجر لكتاب ربه جل وعلا ، ولا من يقرأ القرآن وصدره ضائق بقراءته يصبّر نفسه عليه، ويفرح ببلوغ آخر السورة لينصرف إلى دنياه.
فسمَّى الخشوع علماً ، وهو كذلك، لأن الخاشع مقبل بقلبه على كلام ربه معظم له، كثير التفكر فيه والتدبر له؛ فيوفق لفهمه والانتفاع به انتفاعاً لا يحصّله من يقرأ مئات الكتب، وهو هاجر لكتاب ربه جل وعلا ، ولا من يقرأ القرآن وصدره ضائق بقراءته يصبّر نفسه عليه، ويفرح ببلوغ آخر السورة لينصرف إلى دنياه.
قال
الفقيه ابن مفلح الحنبلي في كتابه الآداب الشرعية: (عن أحمد أنه قال: كان معروف
الكرخي من الأبدال مجاب الدعوة وذكر في مجلس أحمد فقال بعض من حضر: هو قصير العلم.
فقال له أحمد: أمسك عافاك الله! وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروفٌ؟!
فقال له أحمد: أمسك عافاك الله! وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروفٌ؟!
وقال
عبد الله: قلت لأبي: هل كان مع معروفٍ شيءٌ من العلم؟
فقال لي: يا بني كان معه رأس العلم خشية الله تعالى)ا.هـ
فأهل الخشية والإنابة بما يجعل الله لهم من النور والفرقان الذي يميّزون
به بين الحق والباطل، والهدى والضلالة، والرشاد والزيغ، وما يحبه الله وما يبغضه:
يحصل لهم من اليقين والثبات على سلوك الصراط المستقيم ما هو من أعظم ثمرات العلم
وقد قال الله تعالى:{ يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا
وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ
الْعَظِيمِ} وأهل الخشية والإنابة أعظم الناس حظاً بهذا
الفرقان؛ وهو فرقان في القلوب التي استنارت بنور الله تعالى فمشت به.
وقد قال الله عز وجل { سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ} (سورة الأعلى:10)
فالعلم
الصحيح يهدي العبد إلى ربه جلَّ وعلا، وإذا اهتدى العبد إلى ربه وعرفه حق المعرفة
خشيه ؛ كما قال تعالى لموسى:{ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17)
فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى
(19(}
فالخشية هي مفتاح فهم القرآن
وتدبره والاعتبار بما فيه، وهي باب التذكر النافع الذي يزداد به اليقين ويرتفع به الإيمان
وتزكو به النفس، ويتيسَّر به اتباع الهدى.
فهم
الدليل الخاص إلى ما يدل عليه القرآن المجيد من الفضائل العظيمة والخزائن الكريمة التي جعل الله
مفاتيحها لأهل الخشية والإنابة؛ لما في قلوبهم من تعظيم الله جلَّ وعلا والإقبال
عليه وعلى كتابه؛ فكان من إكرام الله لهم أن أقبل عليهم بخطابه الخاص؛ فالناس
يقرؤون القرآن، وهؤلاء يقرؤونه، ولكن شتان بين القراءتين!!
أسباب الخشية ثلاثة
جامعة لمعانٍ كثيرة:
السبب
الأول: محبة
الله جل وعلا،
فصدق المحبة يحمل على الخشية من الانقطاع عن الله جل وعلا والحرمان من رضوانه.
والسبب
الثاني: الرجاء
، فإنَّ صدق الرجاء يحمل على الخشية من فوات ثواب الله عز وجل وفضله العظيم.
والسبب الثالث: الخوف، فالخوف الصادق يحمل على خشية التعرض لسخط الله وعقابه.
فعادت أسباب الخشية إلى أصول العبادات القلبية الثلاثة: (المحبة والرجاء والخوف) فهي أركان العبادة، فخشية العبادة لها لوازم تعبدية من المحبة والخوف والرجاء ([20] ) .
والسبب الثالث: الخوف، فالخوف الصادق يحمل على خشية التعرض لسخط الله وعقابه.
فعادت أسباب الخشية إلى أصول العبادات القلبية الثلاثة: (المحبة والرجاء والخوف) فهي أركان العبادة، فخشية العبادة لها لوازم تعبدية من المحبة والخوف والرجاء ([20] ) .
وهذه الثلاثة جاء ما يغرسها في النفس في طيات سورة ( طه) من معرفة
الله حق المعرفة لأنه من عرف الله بأسمائه وصفاته أحبه ومن أحبه هابه.
وجاء فيها تعداد لنعم المنعم سبحانه وهذا يدعو لمحبه.
وجاء فيها أهوال يوم القيامة، وعاقبة من يكذب بآيات الله وهي تبعث في
النفس الخوف.
وجاء فيها جزاء من يتبع آيات الله وهذا باعث للرجاء.
فجاء في آيات سورة ( طه ) ما يغرس في النفس هذه المعاني الثلاث حتى
نكون من أهل الخشية المستجيبين لأوامره لنحظى برضاه فنسعد.
هذا هو الطريق الأول حتى ننتفع بما في القرآن وهو أن نكون من أهل
الخشية.
أما الطريق الثاني فقد جاء في قصة موسى وسنتحدث عنه في المحور الثالث
بإذن الله.
وقفات مع الآيات:
-
{ مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ}
قال ابن عاشور: ومفهوم ذلك أن القرآن إنما أنزل
لسعادته صلى الله عليه وسلم، وسعادة من اتبعه.
- { إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ}
أنزل الله القرآن للتذكر حتى تلين القلوب لذكر الله
وما أنزل من الحق، فكان هذا الإنزال للقرآن، وهذا الإرسال للرسول صلى الله عليه
وسلم من عنايته تعالى ولطفه بالمدعوين حيث لم يتركهم يتخبطون في ظلمات الجاهلية
والضلال ([21]
)
.
وقد ظهر لنا جليّا في هذه السورة لطف الله ورعايته
لمن يستجيب لأوامره كما سيأتي.
ثم
ذكر الله تعالى أن هذا القرآن إنما نزل ممن خلق الأرض والسماوات العلى، تنويهاً
بعظمته، فإنه لما كان منزل القرآن بهذه العظمة، لا جرم أن القرآن شيئاً عظيماً ([22] ).
*****
المحور الثاني: ( 4 – 8) التنويه بعظمة القرآن لعظمة من أنزله سبحانه .
شرع
سبحانه بالتعريف بنفسه بذكر بعض أسمائه وصفاته الدالة على سعة رحمته وعظمة ملكه،
وإحاطه علمه، فأثبت لنفسه الاستواء على عرشه، وبين سبحانه بأنه مالك لما في
السماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى لا يشاركه في ملكه أحد، وهو مدبر ذلك
كله ومصرف جميعه، ودقة علمه وبأن علمه محيط بجميع ما ملك سبحانه، يعلم ما أعلنوه
من القول، وما أسروه لغيرهم أو في أنفسهم، وما هو أخفى من السر مما علم الله
وأخفاه عن العباد ولم يعلموه مما هو كائن ولم يظهره لأحد.
وهذا
الذي هذه صفته هو الذي أنزل القرآن، وهذا نحو قوله تعالى:{قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ
السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا }
الفرقان (6).
ثم
يختتم مطلع السورة بإعلان وحدانية الله بعد إعلان هيمنته وملكيته وعلمه سبحانه،
وأن من اتصف بتلك الصفات الجليلة الذي له الأسماء الحسنى وهو المستحق للعبودية
المختص بالألوهية، وأنا ما دونه ليس أهلاً للعبادة.
قال
الرازي: [وإنما عظم القرآن ترغيباً في تدبره والتأمل في معانيه وحقائقه].
ولما
كان هذا القرآن من خالق قوي قدير اتصف بصفات الكمال والجلال فإن الذي يتخذ هذا
التنزيل الكامل الخالد مرشداً وهادياً سوف يصل بإذن الله تعالى إلى سعادة الدارين.
قال
الأستاذ محمود محمد عمارة في كتابة فقة الدعوة من قصة موسى عليه السلام:(وأين من
هذا التنزيل مذاهب أرضية قاصرة، تحمل في طياتها جهل واضعيها، وقصورهم، وأهواءهم
التي تضطرب بها أحوال البشر فلا تستقر على حال من القلق) ([23] ) .
وقفات مع الآيات:
-
قوله تعالى:{الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ}
وصف الله تعالى بالرحمانية للإشارة إلى أن تنزيل
القرآن أيضاً من أحكام رحمته تعالى كما ينبئ عنه قوله تعالى:{الرَّحْمَٰنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ} ([24] ) .
-
في قوله
تعالى:{لَهُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَىٰ}
الآية
جاءت في سياق تفخيم القرآن لكونه نزل ممن خلق الأرض والسماوات العلى، المالك لما
فيهما وما بينهما وما تحت الثرى، وهذه الدلالات تدل على عظمة خلق الله تعالى، وهذا
فيما أدركه البشر منها بما هيأه الله له من الأسباب والوسائل العلمية.
-
عرف الله
تعالى بنفسه بذكر صفات الكمال والجلال والعظمة ليزداد المؤمن اطمئناناً وأنساً به سبحانه،
لأنه متعلق بالله الرحمن الذي على العرش استوى، الذي له مافي السماوات وما في
الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، الذي له الأسماء الحسنى ([25] ) .
-
قوله تعالى:{يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى}
قال صاحب الظلال:والقلب حين يستشعر قرب الله منه،
وعلمه بسره ونجواه يطمئن ويرضى، ويأنس بهذا القرب فلا يستوحش من العزلة بين
المكذبين، ولا يشعر بالغربة بين المخالفين له في العقيدة والشعور.
-
قوله تعالى:{ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ}
توحيد ختم الله بها افتتاحية هذه السورة وحياً إلى
نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أول ما ابتدأ به –سبحانه- وحيه إلى موسى فقال
له :{وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ* إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} ([26] ) .
فمعرفة الله حق المعرفة تدعو لمحبته التي هي سبب من
أسباب الخشية.
بعد
أن ذكر الله أهمية القرآن جاء بعدها قصة موسى وفي مضمونها العديد من الأمور الدالة
على أن السعادة ورعاية الله في سرعة الاستجابة لأوامر الله، وتضمنت أيضاً هلاك من
يعرض عن ذلك كما جاء في قصة فرعون والسامري.
*****
المحور الثالث: ( 9 –98) قصة موسى عليه
السلام
قد
اشتملت قصة موسى في سورة ( طه ) على العديد من الأمور الدالة على أن السعادة في الاستجابة
لأوامر الله.
ولما
كانت قصة موسى قد شغلت أكثر من نصف هذه السورة، حيث بلغ عدد آياتها ( 90 ) آية من
(135) آية، سنقسمها إلى مشاهد ستة.
وفيما
يلي عرض لتلك المشاهد، وبيان لما تضمنته من معان ودلالات وهدايات:
المشهد الأول/ مشهد المناجاة في الوادي المقدس (9 – 41 ).
يتضمن
هذا المشهد أمر رجوع موسى بأهله من مدين، ورؤيته النار بجانب الطور والذهاب إليها
اقتباساً من نورها، وتدفئة من برد الشتاء، إضافة إلى طهي شيء من الطعام، أو التماساً
لهاد يهديه الطريق بعد أن ضل، ثم خبر نداء الله تعالى له، وما تضمن ذلك النداء من
الأوامر لموسى بخلع نعليه والاستماع لما يوحى إليه من أمر التوحيد، والعبادة،
وإقامة الصلاة، وشأن الساعة والإيمان بها، ومعجزتي العصا واليد، وأمره بالذهاب إلى
فرعون الطاغية، وما طلبه موسى من ربه من شرح صدره، وتيسير أمره، وفك عقدة من
لسانه، وجعل هارون وزيراً له، ثم تذكير الله له بمننه عليه، حيث حفظه صغيراً،
وأحاطه بعنايته التي رافقته منذ ولادته إلى هجرته إلى مدين، ثم عودته ليلقى اليوم
الذي قدره الله تعالى له، ليوحي إليه بالرسالة والتكليف بالذهاب إلى فرعون مع أخيه
ليبلغاه ما أمرهما الله تعالى به بقول لين لعله يتذكر أو يخشى ([27] ) .
وقفات مع الآيات:
-
{ إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي
آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ
هُدًى }
قال
ابن عاشور: اجتلاب موسى إلى الوادي المقدس لتلقي الوحي باستدعائه بنور في ظلمة رمز
على أنه سيتلقى ما به إنارة ناس بدين صحيح بعد ظلمة الضلال وسوء الاعتقاد.
-
{ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ
فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى }
عرف
سبحانه وتعالى بنفسه ثم بعدها أمر موسى، لنعلم أن معرفة الله هي أهم معين على
الاستجابة لأوامر الله.
-
{وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى}
وهذا
هو الطريق الثاني للانتفاع بالقرآن وهو إلقاء السمع
قال
القرطبي في تفسيره: حسن الاستماع كما يجب قد مدح الله عليه فقال:{ الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله} [الزمر: 18] وذم على خلاف هذا
الوصف فقال:{ نحن أعلم بما يستمعون به}
الآية. فمدح المنصت لاستماع كلامه مع حضور العقل، وأمر عباده بذلك أدبا لهم، فقال:{
وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون}
[الأعراف: 204] وقال ها هنا:{ فاستمع لما يوحى
} لأن بذلك ينال الفهم عن الله تعالى. روي عن وهب بن منبه أنه قال: من أدب الاستماع
سكون الجوارح وغض البصر، والإصغاء بالسمع، وحضور العقل، والعزم على العمل، وذلك هو
الاستماع كما يحب الله تعالى، وهو أن يكف العبد جوارحه، ولا يشغلها. فيشتغل قلبه عما
يسمع، ويغض طرفه فلا يلهو قلبه بما يرى، ويحصر عقله فلا يحدث نفسه بشيء سوى ما يستمع
إليه، ويعزم على أن يفهم فيعمل بما يفهم. وقال سفيان بن عيينة: أول العلم الاستماع،
ثم الفهم، ثم الحفظ، ثم العمل ثم النشر، فإذا استمع العبد إلى كتاب الله تعالى وسنة
نبيه عليه الصلاة والسلام بنية صادقة على ما يحب الله أفهمه كما يحب، وجعل له في قلبه
نورا.
وهاذان
الطريقان قد وردا في كتاب الله عز وجل في قوله تعالى:{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ
أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } [ق:
37 ]
قال
الشيخ السعدي في تفسير هذه الآية:[ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ
قَلْبٌ} أي: قلب عظيم حي، ذكي، زكي، فهذا إذا ورد عليه شيء من آيات الله، تذكر بها،
وانتفع، فارتفع وكذلك من ألقى سمعه إلى آيات
الله، واستمعها، استماعًا يسترشد به، وقلبه {شَهِيدٌ} أي: حاضر، فهذا له أيضا ذكرى
وموعظة، وشفاء وهدى ]
وفي
قصة إسلام عمر الشهيرة لما ضرب أخته وأدمى وجهها أخذت تبكي بين يديه، فكأنه سكن
الغضب الذي عنده، ولما طلبت منه أن يغتسل لكي يقرأ شيء من القرآن فاستجاب عمر
واغتسل، فلما أخذ عمر بن الخطاب الصحيفة من أخته أخذه بيان القرآن فأثر فيه القرآن
فجعل ينظر في المصحف ويقول: ينبغي لقائل هذا الكلام ألا يُعبد غيره ([28] ) .
ففي
استجابة عمر لأخته واغتساله دليل على صدق إقباله على هذا الحق.
-
{ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا
لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى }
اشتملت
الآية على أوامر التكليف بأسس الرسالة الثلاثة وهي: الاعتقاد بالوحدانية وهي قوام
العقيدة، والتوجه له بالعبادة والعبادة تشمل التوجه لله تعالى في كل نشاط الحياة
وخص منها إقامة الصلاة لأهميتها، ثم الساعة والساعة هي الموعد المرتقب للجزاء
العادل الذي تتوجه إليه النفوس فتحسب حسابه، وتسير في الطريق وهي تراقب وتحاسب
وتخشى الانزلاق ([29] ) .
وكما ذكرنا من قبل
أنه على قدر تصديق العبد بوعيد
الله يأتي المؤمن الطاعات ويُحجم عن المعاصي، فاليقين بما
في اليوم الآخر من الأمور المعينة على الاستجابة لأوامر الله، وذكرنا من قبل أن من
الأمور المعينة معرفة الله وتعظيمه وهنا قلنا اليقين باليوم الآخر.
س: ما دلالة استخدام
أكاد أخفيها بدل أكاد أظهرها بما أنها مخفاة فعلاً ؟
لأنه ذكر من علاماتها
ما يوضح وقوعها فكأنه لم يسترها ولو قرأنا ما ذكره تعالى من علامات وما ذكره
الرسول صلى الله عليه وسلم من العلامات يقول (اقتربت) إذن هو أظهرها ولم يخفيها
وإنما فقط أخفى وقتها لكن ما ذكر من العلامات وما سيأتي من العلامات بحيث تقول هذه
من علامات الساعة، يعني ظهور النار في أرض الحجاز هذه من علامات الساعة، يكثر
الهرج في آخر الزمان (الهرْج هو القتل)، ذكر من علامات الساعة ما يوضحها بحيث تقول
هذه من علامات الساعة وتقطع أنها من علامات الساعة، إذن هو لم يخفها لكن أكاد أخفيها
لا يعلم موعدها أحد ([30]
) .
-
{ فَلَا يَصُدَّنَّكَ
عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى }
فالهلاك في الصد عن التأهب للساعة وعن الإيمان بها.
-
{ وَمَا تِلْكَ
بِيَمِينِكَ يَامُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ
بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى }
بسط
موسى الكلام في بيان منافع العصا خوفاً من الأمر بإلقائها كالنعل الذي أمر بخلعه
أول اللقاء ([32] ) .
كما
أن موسى نسب العصا لنفسه لمكانة العصا عنده وأن قدرها عظيم عنده.
-
{ قَالَ أَلْقِهَا
يَامُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى }
جاء
أمر الله لموسى بإلقاء شيء عظيم القدر عنده ومع ذكر استجاب موسى للأمر.
وقد
ذكرت سورة موسى في عشر سور وهذه السورة الوحيدة التي جاء فيها قوله تعالى:( فَأَلْقَاهَا ) بالفاء الفورية الدالة على سرعة استجابة موسى
عليه السلام لأمر الله.
-
{ قَالَ خُذْهَا وَلَا
تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى }
من
عناية الله برسوله موسى عليه السلام أن أذهب عنه ما في نفسه من الخوف حين انقلبت
العصا حية تسعى حين أمره أن يأخذها ولا يخاف، والسياق هنا لا يذكر ما ذكره في سورة
أخرى من أنه ولى مدبراً ولم يعقب، إنما يكتفي بالإشارة الخفيفة لما نال موسى عليه
السلام من خوف، ذلك أن ظل هذه السورة ظل أمن وطمأنينة، فلا يشوبه بحركة الفزع
والجري والتولي بعيداً ([33] ) .
-
{ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي
صَدْرِي
* وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً
مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي *
هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي }
وهنا
أمر آخر في السورة معين على الاستجابة لأمر الله وهو الدعاء، فلما شعر موسى بمشقة
هذا الأمر من الله لم يترك الاستجابة لله في هذا الأمر بل اتخذ الأسباب المعينة له
على ذلك.
س:
فلما دعى موسى الله بهذه الأمور بالذات حتى يقوم بهذا التكليف ؟!
قال
صاحب الظلال: إن انشراح الصدر يحول مشقة التكليف إلى متعة، ويحيل عناءه إلى لذة
ويجعله دافعاً للحياة لا عبئاً يثقل خطى الحياة.
إن
انشراح الصدر مدد إلاهي يحرك الجسم إلى ما يريد الله، وانقطاعه يسخر الجسم إلى ما
يريد الجسم، ويجعله عبداً لشهواته، وضيق القلب المحروم من نور الله يشوش على
الخواطر ولا يمكن صاحبه من إصابة الهدف.
وتيسير
الأمر إنما هو التوفيق، وكل مجتهد مسلوب التوفيق لا محالة أنه لا يفلح ولا ينجح في
الوصول إلى مراده، تيسير الله لعباده هو ضمان النجاح. وإلا فماذا يملك الإنسان
بدون هذا التيسير؟.
وللفصاحة
في بيان الحق وتبليغه أهمية كبرى، وهذا القرآن بيان عربي لا يتسنى حسن إبلاغه إلا
باللفظ العربي المبين، لذا كان واجباً على من يُبلغ أوامر الله أن يأخذ من اللغة
ما يقيم به لسانه ويعينه على بيان الحق الذي معه.
وطلب
موسى من ربه أن يشد أزره بأخيه ليكون ذلك سبباً في إقامة الشعائر، فالمؤمن قوي بإخوانه ضعيف بنفسه ([34]
) .
-
{ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ
سُؤْلَكَ يَامُوسَى }
آتى
الله عز وجل موسى ما طلبه من شرح الصدر، وتيسير الأمر، وفك عقدة من لسانه، ووزارة
أخيه هارون، وهي أمور لا بد منها في تبليغ أوامر الله وهو ما أمر به موسى ([35] ) .
-
{ وَلَقَدْ مَنَنَّا
عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى }
لأن
استحضار النعم دائماً يدفع على الاستجابة لأوامر المنعم سبحانه
-
{ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى
أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي
الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ
لَهُ
}
جاء في سورة القصص {وَأَوْحَيْنَا
إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي
الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ
مِنَ الْمُرْسَلِينَ } فما الفرق بين ألقيه واقذفيه؟
(اقذفيه
) أقوى من (ألقيه) فتخيلي أن يُقال لأم (اقذفي ابنك ) لا شك أنها أقوى على نفسها
من (ألقيه) وجاء في هذه السورة أيضاً وضعه في التابوت ولم تأت في سورة القصص، ومع
ذلك استجابت لأمر الله وفي هذا تعليم للعباد أن يعتقدوا بأن عاقبة ما أمر الله به
خير لهم، وإن لم يتبين ذلك في أول الأمر ([37] ) .
-
{ إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ
أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَىٰ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا
تَحْزَنَ
}
جاء
في سورة القصص{ فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ
وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ }
الفرق بين ردّ ورجع، أن الرجوع يقال لمن ذهب من
مكان وهو يعلم يقيناً رجوعه إليه، أم ( رُد ) تطلق على من ذهب وليس في
ذهنه العودة لكنه ( رُد ) أجبر على العوده ([38] ) .
فكأن
أم موسى في هذا السياق كانت تعلم يقيناً أنه سيرجع لأن الله هو من وعد بذلك، وهكذا
يجب أن نتعامل مع أوامر الله أن نستجيب ونحن على يقين بما وعدنا الله.
***
المشهد الثاني/ مشهد التكليف والرعاية (42 – 48).
تضمن
هذا المشهد حكاية الله تعالى لخطاب موسى وهارون ربهما بإبداء ما في نفوسهما من
التخوف من بطش فرعون، استجلاباً اتأمينه سبحانه لهما، فكان أن منّ الله عليهما
بالأمن حين نهاهما عن الخوف، لأنه سبحانه معهما، يسمع شكواهما، ويرى مكانهما،
فاطمئنت – عندها- أنفسهما، ثم أعقب الله لهما بالوحي إليهما بما يتضمنه إرسالهما
من إعلام فرعون بأنهما رسولا ربه، يطلبان منه إرسال بني إسرائيل معهما، والكف عن
تعذيبهم، مبينين أنهما قد جاءا بآية تدل على صدقهما، ثم استعملا مع فرعون أسلوب
الترغيب والترهيب بعيداً عن الخطاب المباشر له بقولهما :{ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا
قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)
}([39] ) .
وقفات مع الآيات:
-
{ وَلَا تَنِيَا فِي
ذِكْرِي
}
قال
الطبري: ولا تضعفا في أن تذكراني فيما أمرتكما ونهيتكما، فإن ذكركما إياي يقوي
عزائمكما، ويثبت أقدامكما، لأنكما إذا ذكرتماني، ذكرتما مَنّي عليكما نعما جمة،
ومنناً لا تحصى.
قال
ابن كثير: إن أمر الله تعالى لموسى وهارون بألا يفترا في ذكر الله، وخاصة في حال
مواجهة فرعون، ليكون ذكر الله عوناً لهما عليه، وقوة لهما وسلطاناً كاسراً له ([40] ) .
وهذا
المعنى موافق لما جاء في الحديث : أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أخذ بيد معاذ وقال:[
يا معاذُ واللهِ إني لَأُحبُّك واللهِ إني لَأُحبُّك فقال أوصيك يا معاذُ لا
تَدَعَنَّ في دُبُرِ كلِّ صلاةٍ تقول اللهمَّ أعِنِّي على ذكرِك وشكرِك وحسنِ عبادتِك ]
فكثرة
الذكر تؤدي إلى الشكر والشكر يؤدي إلى حسن العبادة.
-
{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ
يَخْشَى }
قال
صاحب الظلال: لأن القول اللين لا يثير العزة بالإثم، ولا يهيج الكبرياء الزائف
الذي يعيش به الطغاة، ومن شأنه أن يوقظ القلب فيتذكر ويخشى عاقبة الطغيان.
إن
من حكمة الله تعالى في أمره موسى عليه السلام بمخاطبة فرعون بالقول اللين أنه
رباه، فكان من رعايته لحقه ألا يغلط عليه في القول ([41] ) .
من
يخاطب من يدعي الربوبية والألوهية بالقول اللين كيف يشرع لمن يوحده ما يشقيهم ؟!
-
{ قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا
أَوْ أَنْ يَطْغَى }
انكسار
القلب بين يدي الله والإلحاح على الله جل وعلا في الدعاء هذا من أعظم أسباب الثبات
على الدين ([43]
)
.
-
{قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى
}
قال
الشيخ صالح المغامسي: من كان الله معه أمن واستغنى عمن سواه، ليأمن السالكون إلى
الله.
-
{ إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ}
، { قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ}
في
تكرار لفظ الربوبية مضافاً لفرعون ترغيب وتحبيب في جو من السلام والأمن لا يسمح
لخواطر الانتقام أن تثور في نفس فرعون
وليتذكر
أن ما هو فيه من الملك والنعيم إنما هو من عطاء ربه الذي أرسلهما ([44] ) ،
ليستجيب لأوامر الله
-
{ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى * إِنَّا قَدْ
أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى }
مخاطبة
فرعون بلفظ السلام استعطاف وترغيب له، وعدم مواجهته بالخطاب لئلا يستفز فيستكبر عن
الحق، وبهذا الأسلوب اللين جمعا له بين الترغيب والترهيب استمالة لقلبه، ورجاء أن
يتذكر أو يخشى فيستجيب لأوامر الله ([45] ) .
تجلى
لنا في هذا المشهد لطف الله ورحمته بفرعون حتى يستجيب لأمر الله فإذا كان هذا لطفه
سبحانه بمن قال: أنا ربكم الأعلى، فكيف بلطفه سبحانه بمن يقول: سبحان ربي الأعلى
؟! مما يدلنا على أن السعادة في الاستجابة
لهذه الأوامر.
***
المشهد الثالث/ مشهد الحوار والجدال مع فرعون ( 49 – 59 )
تضمن
هذا الحوار والجدل بين موسى وهارون من جانب، وفرعون من جانب آخر، وقد تناول هذا
الحوار الربوبية، وما رافق ذلك من الأدلة والحجج البينة على إثباتها وشأن القرون
الأولى التي علمها عند الله، والتحدي بالمعجزة من قبل فرعون، وطلبه موعد المباراة،
وتحديد موسى علي السلام الموعد زماناً ومكاناً ([46] ) .
في
هذا الحوار تجلت الوسائل التي استخدمها فرعون لصرف الناس عن الحق وهي نفس الوسائل
التي يستخدمها الإعلام اليوم.
وقفات مع الآيات:
- {
قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى (49) قَالَ
رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى }
عرّف
موسى عليه السلام فرعون بالله عز وجل لأن من عرف الله سبحانه أحبه ومن أحبه هابه.
-
{قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ
رَبِّي وَلَا يَنْسَى }
انتقال
فرعون من السؤال عن الرب إلى السؤال عن القرون الأولى كان يرمي منه إشغال موسى
عليه السلام عن التوحيد لأنه أخوف ما يخافه، خشية أن يحرك قلوب الحاضرين نحوه أو
ربما أراد أن يكسب ود الحاضرين ويثير حميتهم الجاهلية لتوقعه أن موسى سيستجيب بذكر
مصيرهم وهو النار فيثير ذلك سخط الحاضرين عليه، لكن جواب موسى لم يحقق توقع فرعون ([47] ) .
وهو
ما يفعله الإعلام الآن لصرف الناس عن القرآن وأوامر الله.
-
{ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ
فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا
مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ
لِأُولِي النُّهَى }
استطرد
موسى ببيان آيات الله العظيمة وأن المعتبر بها هم أولو النهى أصحاب العقول السليمة
الذين يتأملون بها هذه الآيات التي تدل على الخالق المدبر.
قطع
موسى على فرعون أي إمكانية في المغالطة أو الإيهام ([48] ).
وهذا
ما نحتاجه لرد كل من يشوه الإسلام أن نعرف الله حقاً.
عرّف
موسى عليه السلام بربه ودل بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية.
فالإنسان
يطعم براً وفاجراً مؤمناً وكافراً من رزق الله، ومع ذلك يوجد في العباد من يرى
العافية في بدنه فيحمد الله تعالى على نعمائه، ويفر إلى طاعته، ويجنح إلى مرضاته.
ومنهم
من الله يطعمه ويسقيه، ومع ذلك مع عافية في بدنه يفر عن طاعة الله، ويجنح على
معصيته، ولا يتوخى أن يفر من مواطن غضبه وسخطه سبحانه ([49] ) .
-{
مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا
نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى }
جاء
إثبات وعد الله بالبعث والجزاء لأنه كما ذكرنا أنه على قدر تصديق العبد بوعيد الله يأتي المؤمن
الطاعات ويُحجم عن المعاصي، فاليقين بما في اليوم الآخر من
الأمور المعينة على الاستجابة لأوامر الله.
-
{ قَالَ أَجِئْتَنَا
لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَامُوسَى }
قال
فرعون هذا الكلام لاستثارة نفوس الحاضرين واستفزازها بتذكيرهم بالانتماء إلى وطنهم
وخطورة إخراجهم منه، حتى يزدادوا تمسكا به، وكم هو ثقيل على النفس أن تنتزع من
أرضها ([50]
)
.
وهو
ما يمارسه إعلامنا اليوم نحو من يدعو إلى الله.
-
{ فَلَنَأْتِيَنَّكَ
بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ
نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ
وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى }
قالها
فرعون إيهاما للسامعين بأن ما جاء به موسى ليس إلا سحر، يمكن أن يقابل بمثله، ثم
خير موسى في تحديد الموعد المناسب للمناجزة والمباراة، وكأنه أراد أن يوهم
السامعين بقوة سحره وثقته به، بيد أن ثقة موسى بربه وبنصره فاقت ثقة فرعون بسحره،
حيث قبل موسى تحدي فرعون مباشرة، وزاد عليه اختيار الوقت في أوضح فترة من النهار
وأشدها تجمعاً يوم العيد ([51] ) .
وهو
ما ينبغي لنا فعله اليوم وهو الثقة بما في كتاب ربنا من أوامر ونواهي، ولا يُصلحنا
ويسعدنا إلا ما فيه.
***
المشهد الرابع/ مشهد المباراة بين موسى والسحرة ( 60 – 76)
تضمن
هذا المشهد موعظة موسى عليه السلام للسحرة، وإصرار السحرة على المواجهة مع قوة
الموعظة، ثم وقوع المنازلة، والنتيجة التي أسفرت من المباراة، وأثر هذه النتيجة في
صفوف المهزومين، وتهديد فرعون وتوعده للسحرة المؤمنين بالقتل والصلب، وبيان قوة
إيمانهم في إصرارهم على الموت على الإيمان، طمعاً في أن يغفر الله لهم ما قد
أكرهوا عليه من السحر، مع ما تضمنه السياق من وصف الوقوف أمام الله تعالى لمن أتاه
مجرماً ولمن أتاه مؤمناً، وجزاء كل منهما.
إن
موقف فرعون الرافض للحق، والمصر على المواجهة – مع وضوح الحق- يشير إلى عمق
الاستكبار الذي استولى على نفس فرعون، ولم يكن رفضه ذلك إلا علواً واستكبارا ([53] ) .
وقفات مع الآيات:
-
{ قَالَ لَهُمْ مُوسَى
وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ
خَابَ مَنِ افْتَرَى }
تقدم
موسى بالموعظة للسحرة، والإنذار بعذاب الله تعالى، وحذرهم من الخيبة إن هم افتروا
على الله الكذب، وسرى أثر هذا الترهيب إلى قلوب بعض السحرة، وكذا شأن الكلمة
الصادقة حين تلمس القلوب وتنفذ فيها، فقد تأثر بعضهم وحصل التنازع في صفوفهم قبل
دخول حلية الصراع { فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ
بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى }
ومن
عوامل التأثير في موعظة موسى أنه استعمل اللين في موعظتهم، فلم يوجه الخطاب إليهم
بالخيبة، فلم يقل (وقد خبتم) مع أنه معلوم لديه أنهم مفترون ([54] ) .
-
{ قَالَ أَجِئْتَنَا
لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَامُوسَى } كلمة قالها
فرعون، ورددها أتباعه أسوة به فقال بعضهم لبعض {قَالُوا
إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ
بِسِحْرِهِمَا } وكلمة أخرى قالها فرعون:{ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ
الرَّشَادِ
} (غافر:29)، ومثلها ردد الأتباع هنا حين قالوا في التحذير من موسى وهارون:{ وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى }
ليُعلم بهذا أن الأتباع المنتفعين يتأسون بمتبوعهم في التأكيد على أن النظام
القائم هو الأصلح والأفضل، وأن الخروج عليه شطط على الحق يجب الوقوف أمامه،
ومواجهته ([55]
)
.
-
{ فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ
ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا }
أراد
السحرة إرهاب الناس وإرهاب موسى وهارون، فحمس بعضهم بعضاً بأن يأتوا صفا، لأن ذلك
أهيب لهم، ولم يزل الذين يرمون إقناع العموم بأنفسهم يتخيرون لذلك بهاء الهيئة
وحسن السمت وجلال المظهر، فكان من ذلك جلوس الملوك على جلود الأسود وربما لبس
الأبطال جلود النمور في الحرب ([56] ) .
-
{ قُلْنَا لَا تَخَفْ
إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى }
قال الشيخ المغامسي: من كان في رعاية الله فهو
الأعلى.
-
{ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً
مُّوسَىٰ
}
س: ما دلالة تقديم في نفسه على موسى؟ مع أنه في خارج القرآن نقول: فأوجس موسى خيفة في نفسه؟
هذا التقديم مهم جداً في مثل هذا الموقف لأن ظهور
الخوف عليه يدل على عدم الثقة، لو قال: فأوجس خيفة ولم يقل: في نفسه إيجاس الخوف
قد يظهر على المرء. أوجس أي أحسّ لأن الخوف قد يظهر على الإنسان بدليل إبراهيم لما
قال (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً (28) الذاريات) لم يقل في نفسه قالوا: (قَالُوا
لَا تَخَفْ) ظهرت عليه علامة الخوف.
ولو لم يقل: ( في نفسه ) نفهم أنه قد يكون ظهر عليه،
وفي ظهور الخوف عليه دلالة ضعف وعدم ثقة.
إذن (في نفسه) مهمة جداً لأنه لم يبدو على موسى
علامات الخوف مطلقاً وإن كان في نفسه خائفاً لذلك أهم شيء أن يذكر (في نفسه) حتى
لا يظهر عليه.
هذا أمر وهنالك أمر آخر لو قال: (فأوجس موسى خيفة
في نفسه ) هذا يحتمل أنه ذمّ لموسى أنه ثمة خوف كامن في أعماق نفسه في الأصل ظهر
الآن. هنالك خيفة كامنة في نفسه أحسّها كما تقول: أظهر موسى خوفاً في نفسه إذن
نفسه منطوية في الأصل على خوف أحس به.
أظهرت ودّاً لمحمد الودّ موجود أظهره. فلو قال: (فأوجس
موسى خيفة في نفسه ) لكان ذمّاً لموسى لأن معناه أنه في أعماق نفسه، نفسه منطوية
على خوف ([57] ) .
-
{ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ
سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى }
رأى
السحرة المشهد، ولم يكن السحرة يوماً يطلبون علماً، ولا جلسوا يوماً في حلقة
تحفيظ، ولا تحلقوا حول نبي ولا حول عالم، ومع ذلك لما رأوا عصا موسى تلقف ما صنعوا
خروا فطرة سجداً لرب العالمين جل جلاله، فأورثهم السجود إيماناً عظيماً بالله،
جعلهم يصمدون أمام فرعون وجبروته وطغيانه وتكبره ([58] ) .
كانت
سعادة السحرة في سرعة استجابتهم لله.
-
{ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ
الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ }
قال
ابن عاشور: مقصد فرعون من هذا إقناع الحاضرين بأن موسى عليه السلام لم يأت بما
يعجز السحرة إدخالاً للشك على نفوس الذين شاهدوا الآيات، وهذه شنشنة من قديم
الزمان اختلاق المغلوب بأرد العذر، ومن هذا القبيل اتهام المحكوم عليهم الحاكمين
بالارتشاء، واتهام الدولة المغلوبة في الحروب قواد الجيوش بالخيانة.
-
{ فَلَأُقَطِّعَنَّ
أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ
النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى }
قال
صاحب الظلال: هدد فرعون وتوعد بالقتل والصلب، وهكذا هو فعل الطغاة حين يعجزون عن
قهر القلوب والأرواح، وعن إقناع الناس بباطلهم يلجؤون إلى التهديد بالعذاب الغليظ
على الجسوم والأبدان.
قال
ابن كثير رحمه الله: والظاهر أن فرعون صمم على ذلك، وفعله بهم رحمة لهم من الله،
ولهذا قال ابن عباس وغيره من السلف: أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء. أ.هـ
فأي
سعادة بعد هذه السعادة ؟!
-
{ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ
عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ
قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا }
فحاجتنا
لتوضوح معجزة القرآن للناس حتى تكون استجابتهم لما فيه قوية.
-
{ وَمَا أَكْرَهْتَنَا
عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ }
وهذا
شأن المؤمنين بالرسل إذا أشرقت عليهم أنوار الرسالة فسرعان ما يكون انقلابهم عن
جهالة الكفر وقساوته إلى حكمة الإيمان وثباته، ولنا في عمر بن الخطاب ونحوه ممن
آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم مثل صدق ([60] ) .
لاحظنا
في هذا المقطع الفتنة والابتلاء بعد الاستجابة للحق والعودة إليه وهو اختبار من
الله ليختبر صدق العبد، فإن ثبت كان له سعادة الدارين كما جاء في قصة سليمان –
عليه السلام- في سورة ( ص ).
***
المشهد الخامس/ مشهد خروج موسى ببني إسرائيل. ( 77 – 82)
تضمن
هذا المشهد تذكير الناجين من بني إسرائيل بمنة الله عليهم، وتحذيرهم من الطغيان،
وقصة إهلاك فرعون وجنوده، ونجاة بني إسرائيل، ثم المواعدة جانب الطور، وإنزال المن
والسلوى عليهم، وختمه بالترهيب بالتهديد بالغضب على من طغى من بني إسرائيل وبسط
الأمل بالمغفرة (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا
ثُمَّ اهْتَدَى ) ليعتبر المؤمنون، ويستمروا على شكر المنعم ([61] ) .
وقفات مع الآيات:
-
{ وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا
إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي }
الإضافة
في قوله ( بعبادي) لتشريفهم، والإشارة إلى تخليصهم من استعباد القبط وأنهم ليسوا
عبيدا لفرعون ([62] ) .
-
{ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ
قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ }
حين
كان بنو إسرائيل يؤدون ضريبة الذل لفرعون وهو يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم لم
ينجيهم الله، فهم لم يكونوا يؤدون هذه الضريبة إلا ذلا واستكانة وخوفاً، فأما حين
استعلن الإيمان في قلوب الذين آمنوا بموسى، واستعدوا لاحتمال التعذيب وهم مرفوعوا
الرؤوس يجهرون بكلمة الإيمان في وجه فرعون دون حرج، ودون اتقاء للتعذيب، وإعلان
النصر الذي تم قبل ذلك في الأرواح والقلوب، عند ذلك أنجاهم الله عز وجل، وهذه العبرة
التي يبرزها السياق بذلك الإجمال، ليستيقنها أصحاب الدعوات، ويعرفوا متى يرتقبون
النصر من عند الله وهم مجردون من عدة الأرض، والطغاة يملكون المال والجند والسلاح ([63] ) .
قال
صاحب الظلال: لقد تولى الله عز وجل إدارة المعركة بين الإيمان والطغيان، فلم يتكلف
أصحاب الإيمان فيها شيئاً سوى اتباع الوحي والسري ليلاً. ذلك أن القوتين لم تكونا
متكافئتين ولا متقاربتين في عالم الواقع. موسى وقومه ضعاف مجردون من القوة، وفرعون
وجنده يملكون القوة كلها. فلا سبيل إلى وض معركة مادية أصلاً. هنا تولى الله
المعركة لكن بعد أن اكتملت حقيقة الإيمان في نفوس الذين لا يملكون قوة سواها. بعد
أن استعلى الإيمان في وجه الطغيان لا يخشاه ولا يرجوه، لا يرهب وعيده ولا يرغب في
شيء مما في يده.
-
{ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ
عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ }
***
المشهد السادس/ مشهد المناجاة إلى جانب الطور الأيمن وموقف موسى مما أحدث
قومه من بعده( 83 – 98)
تضمن
هذا المشهد عتاب الله لموسى عليه السلام لتعجله لقاء ربه، وتركه قومه، وفتنة
السامري حين صنع لهم عجلاً جسداً له خوار، ودعاهم إلى عبادته، فعبدوه بعد فراق
موسى عليه السلام لهم، وموقفه من قومه بعد رجوعه إليهم غضبان أسفاً، ولومه لهم على
عبادتهم العجل، وموقفه مع أخيه، ولومه على عدم اتباعه حين تيقن ضلال قومه، وحواره
مع السامري، ثم ما صار إليه السامري من العقوبة بالإبعاد، وما آل إليه العجل
المصنوع من الإحراق والنسف في اليم، ليختم المشهد بالتأكيد على ألوهية الله تعالى
بعد إثبات أن العجل لا يستحق أن يعبد من دون الله وقد نسف في اليم نسفاً ([65] ) .
وقفات مع الآيات:
-
{ قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَىٰ أَثَرِي }
لم
يقل موسى:( هؤلاء ) مع أن الهاء في التنبيه تلزم مثل هذه الأحوال، لكن حذفت لأن
الله أجلّ من أن ينبه ([66] ) .
-
{ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ }
الأمور
أحد أمرين:
1/
إما أمور يُخشى سوء عواقبها مما يتعلق بحياة الناس العامة والخاصة، فهذه لا يحسُن
العجلة فيها، والمؤمن مطالب بالتريث فيها، واللجوء إلى أهل العلم { لعلمه الذين
يستنبطونه منهم }، {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } والآيات في هذا المعنى كثيرة.
2/
وهي التي قصدها كليم الله، أن تكون المسألة مسألة قُربة، مسألة تعبد لله، فالعبد
مأمور أن يتعجل فيها.
فلا
يمكن أن تطلب شيئاً أعظم من رضوان الله، لأن رضوان الله تعالى سبب أجل وأعظم في
دخول جنته، ومن رضي الله عنه أتاه المنحة الكبرى والعطية الجزلى.
فبما
ننال رضوان الله؟!
يُنال
هذا بإقامة الدين كله من حيث الجملة، أما من حيث التفصيل فإنه ينبغي أن ينعقد
القلب على محبة الله جل وعلا، والطمع في رحمته، والخوف من عقابه.
-
{ قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا
حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى
السَّامِرِيُّ }
انشغل
بنو إسرائيل بعبادة العجل، بعد أن ألقوا الحلي التي حملوها معهم في النار –
تورعاً- لأنهم استعاروها من القبط، وبذلك انشغلوا بالذنب الحقير عن الذنب العظيم،
وكم نرى في حياتنا من انشغال بكبائر الذنوب والتورع عن صغائرها، وما ذاك إلا
بتلبيس إبليس ([68] ) .
-
{ قَالَ يَاهَارُونُ مَا
مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي}
لم
يتوجه موسى عليه السلام باللوم إلى السامري منذ البدء، مع أنه هو الذي أضل قومه،
وذلك لأن القوم هم المسؤولون ألا يتبعوا كل ناعق، فأما السامري فذنبه يجيء متأخراً
لأنه لم يفتنهم بالقوة، ولم يضرب على عقولهم، إنما أغواهم فغووا، وكانوا يملكون أن
يثبتوا على هدى نبيهم الأول، ونصح نبيهم الثاني ([69] ) .
-
{ وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ
لِي نَفْسِي }
لنوازع
الشر في النفس البشرية أثر في تصرفات البشر، خاصة حين لا يوجد فيها من الإيمان والتقوى ما يردعها ويكفها عن الشر ([70] )
وبعد
ذكر عاقبة من استجاب لأوامر الله ومن أعرض عنها، ومعرفة الأسباب التي دفعت من
استجاب للاستجابة، والأسباب التي دفعت من أعرض للإعراض اتجه الخطاب لهذه الأمة لذكر
جزاء من يعرض عن هذا القرآن.
*****
المحور الرابع: (99 –104) جزاء المعرضين
عن القرآن الكريم.
تضمن
هذا المقطع إنباء النبي صلى الله عليه وسلم بأخبار السابقين مما قصه عليه في كتابه
الكريم، وتضمن بيان جزاء المعرضين عن الذكر الذين يحملون أوزارهم وحدهم يوم
القيامة، وساء لهم حملا، وبيان كيفية حشرهم، وما يتسارون به بينهم من تذاكر قدر
مدة لبثهم في الحياة الدنيا، وإقرارهم بسرعة مرورها حتى قال أعدلهم (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا ) ([71] ) .
وقفات مع الآيات:
- {
وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا
* مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وِزْرًا * خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
حِمْلًا }
قال
ابن عاشور: اختيار اسم الذكر للقرآن الكريم هنا له دلالته في السياق، فهو يدل على
أن ما يقص من أخبار الأمم ليس المقصود به قطع حصة من الزمان ولا إيناس السامعين
بالحديث، إنما المقصود منه العبرة والتذكرة وإيقاظ لموضع الاعتبار من هذه القصة،
وهو إعراض الأمة عن هدي رسولها وانصياعها إلى تضليل المضللين من بينها.
-
{ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ }
من
لطف الله تعالى بالمعرضين عن القرآن أنه تلطف معهم بالتعريض لهم بالإنذار عن
إعراضهم عن القرآن باستخدام الاسم الموصول ( من ) المفيد للعموم والإبهام، ولم
يواجههم بالخطاب استمالة لهم ([72] ) .
-
{يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا
}
قال
ابن جرير الطبري: إنما عنى جل ثناؤه بالخبر عن قيلهم هذا القول يومئذ، إعلام عباده
أن أهل الكفر به ينسون من عظيم ما يعاينون من هول يوم القيامة، وشدة جزعهم من عظيم
ما يعاينون من هول يوم القيامة ما كانوا فيه في الدنيا من النعيم واللذات، ومبلغ
ما عاشوا فيها من الأزمان، حتى يخيل إلى أعقلهم وأذكرهم وأفهمهم أنهم لم يعيشوا
فيها إلا يوماً.
وبعد ذكر جزاء
من أعرض عن القرآن أعقبه سبحانه بذكر مشاهد ليوم القيامة، لأن من يؤمن بهذا اليوم
حقاً لن يعرض عن نجاته الموجوده في القرآن.
*****
المحور الخامس: (105 –112) مشاهد يوم
القيامة.
تضمن
هذا المقطع الإجابة على أسئلة المشركين بشأن الجبال، وبيان حالها يوم القيامة وحال
الناس يوم القيامة، من اتباعهم الداعي إلى الحشر، وخشوع الأصوات للرحمن، وانقطاع
الشفاعة إلا لمن أذن له الرحمن ورضي له قولا، وخضوع الوجوه للحي القيوم، وجزاء
الظالمين، وثواب المحسنين، فهو سبحانه لا يظلم أحداً ([73] ) .
وقفات مع الآيات:
-
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ
الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا }
التعبير
بالنسف للجبال بعد التعبير بنسف العجل دلالة على قدرة الله الذي ينسف الجبال
نسفاً، وعجز العجل عن دفع النسف عنه، فكانت هذه القدرة وذلك العجز دليل على
استحقاق الله تعالى بالألوهية ([74] ) .
-
{ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ }
التعبير
بنفي العوج عند اتباع الداعي، ليذكرهم باعوجاج أنفسهم عن اتباع داعي الحق، فكأن
اتباع الداعي بلا اعوجاج في الآخرة جزاء لامتناعهم عن اتباع داعي الحق في الدنيا ([75] ) .
-
{ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ
إِلَّا هَمْسًا}
إنهم كانوا في
الدنيا يقولون (لا تسمعوا لهذا ...) (فصلت :26)، وها هم يوم العرض في خشوع الأصوات
لا تسمع منهم إلا همساً ([76] ) .
-
{ يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ
الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا }
كانوا
يعبدون مع الله آلهه أخرى ويتبعون أوامر غير الله عز وجل يعتقدون فيها الشفاعة عند
الله، أما اليوم فقد انقطعت شفاعة الشافعين إلا من أذن له الرحمن بالشفاعة ([77] ) .
-
{ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ
الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا }
اسمه
تبارك وتعالى ( الحي ) فيه إثبات الحياة صفة لله، وهي حياة كاملة ليست مسبوقة
بعدم، ولا يلحقها زوال وفناء، ولا يعتريها نقص وعيب، حياة تستلزم كمال صفاته
سبحانه.
واسمه
تبارك وتعالى ( القيوم ) فيه إثبات القيومية صفة لله، وهي كونه سبحانه قائماً
بنفسه مقيماً لخلقه، فهو اسم دال على أمرين:
الأول/
كمال غنى الرب سبحانه، فهو القائم بنفسه، الغني عن خلقه.
الثاني/
كمال قدرته وتدبيره لهذه المخلوقات، فهو المقيم لها بقدرته سبحانه، وجميع
المخلوقات فقيره إليه.
ومما
تقدم يعلم أن هذين الاسمين ( الحي القيوم ) هما الجامعان لمعاني الأسماء الحسنى،
وعليهما مدار الأسماء الحسنى، وإليهما ترجع معانيهما جميعاً.
فالحي:
الجامع لصفات الذات، والقيوم: الجامع لصفات الأفعال.
فالصفات
الذاتية كالسمع والبصر واليد والعلم ونحوها راجعة إلى اسمه ( الحي)، وصفات الله
الفعلية كالخلق والرزق والإنعام والإحياء والإماتة ونحوها راجعه إلى اسمه (القيوم
) لأن من دلالته أنه المقيم لخلقه خلقاً، ورزقاً، وإحياءً، وإماتةً وتدبيراً.
ولما كان يوم المعاد والجزاء بالخير والشر واقعا لا محالة، أنزلنا
القرآن بشيرا ونذيرا، بلسان عربي مبين
فصيح لا لبس فيه لاتباع ما فيه والنجاة في ذلك اليوم ([79] ) .
*****
المحور السادس: (113 – 114) وضوح القرآن
لاتباعه.
تضمن
هذا المقطع تقرير عروبة القرآن، وبيان الحكمة من تضمينه الوعيد، ثم إرشاد الله
نبيه إلى كيفية تلقي القرآن، وأمره بطلب زيادة العلم ([80] ) .
وقفات مع الآيات:
- {وَكَذَلِكَ
أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ }
مجيئ قوله تعالى:{ فتعالى الله
...} بعد قوله:{ وكذلك أنزلناه قرآنا...} إشارة إلى أن القرآن قانون ذلك الملك،
وأن ما جاء به هو السياسة الكاملة الضامنة صلاح أحوال متبعيه في الدنيا والآخرة ([81] )
.
-
{وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى
إِلَيْكَ وَحْيُهُ }
النهي
عن التعجل بالقرآن يشعرنا بأهمية التأني في تلاوته، والتمعن في قراءته، وتمكين
القلب من فهمه وتدبره.
وقد
جاء عن مجاهد وقتادة أن معناه: لا تعجل بقراءة ما أنزل إليك لأصحابك ولا تمله
عليهم حتى تتبين لك معانيه ([82] ) .
-
{ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي
عِلْمًا
}
قال شيخ الإسلام ابن
تيمية رحمه الله: من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم.
قال
ابن عيينه رحمه الله: [ولم يزل صلى الله عليه وسلم في زيادة حتى توفاه الله عز وجل
]
وأفضل من ذلك كلام ربي جل جلاله حيث قال سبحانه:{ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ
لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} (سورة النساء: 66- 68)
قال
الإمام ابن جرير الطبري: ولما ذكر الله القرآن وتصريف الله فيه من الوعيد للمشركين
الذين لم ينتفعوا بذلك الوعيد ولم يتذكروا بهذا القرآن، أعقب الله هنا بذكر قصة
آدم، فكأن الله يقول:( وإن يضيع يا محمد هؤلاء الذين نصرف لهم في هذا القرآن من
الوعيد عهدي، ويخالفوا أمري، ويتركوا طاعتي ويتبعوا أمر عدوهم إبليس، ويطيعوه في
خلاف أمري، فقديماً ما فعل ذلك أبوهم آدم)
وكأن
الله أراد إخبارنا أن الثبات منه وحده.
*****
المحور السابع: (115 – 127) قصة آدم.
تضمن
هذا المقطع حكاية نسيان آدم لعهد الله، واجتباءه له بعد توبته، وتكريم الله له
بإسجاد الملائكة له، والتصريح له بعداوة إبليس له، ومكره به، وسعيه إلى إخراجه
وزوجه من الجنة، والتفصيل بما أعد الله لآدم في الجنة من نعيم، وإغراء إبليس لآدم
وزوجه بالملك الدائم إن هما أكلا من الشجرة، حتى وقعا في المعصية، وبيان ما نتج عن
المعصية من العقوبة، من بدو سوآتهما، وإهباطهما إلى الأرض، ثم ما كان من لطف الله
تعالى بآدم بالاجتباء والتوبة، لينتهي المقطع ببيان جزاء من أعرض عن منهج الله
وثواب من اتبعه ([83] ) .
وقفات مع الآيات:
-
{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ
وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا }
عهد
الله إلى آدم كان هو الأكل من كل الثمار سوى شجرة واحدة، تمثل المحظور الذي لا بد منه
لتربية الإرادة، وتأكيد الشخصية، والتحرر من رغائب النفس وشهواتها بالقدر الذي يحفظ
للروح الإنسانية حرية الانطلاق من الضرورات عند ما تريد فلا تستعبدها الرغائب وتقهرها.
وهذا هو المقياس الذي لا يخطىء في قياس الرقي البشري. فكلما كانت النفس أقدر على ضبط
رغائبها والتحكم فيها والاستعلاء عليها كانت أعلى في سلم الرقي البشري. وكلما ضعفت
أمام الرغبة وتهاوت كانت أقرب إلى البهيمية وإلى
المدارج الأولى.
من
أجل ذلك شاءت العناية الإلهية التي ترعى هذا الكائن الإنساني أن تعده لخلافة الأرض
باختبار إرادته، وتنبيه قوة المقاومة فيه، وفتح عينيه على ما ينتظره من صراع بين الرغائب
التي يزينها الشيطان، وإرادته وعهده للرحمن.
في
تذكيرنا هنا بنسيان أبينا آدم العهد بسط الأمل لنا نحن بني آدم في العذر في نسيان
الالتزام بالتكاليف، وقد رفع الله عنا الخطأ والنسيان ([84] ) .
-
{ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا
مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى }
واعلم
أن واقعة آدم عجيبة وذلك لأن الله تعالى رغبه في دوام الراحة وانتظام المعيشة بقوله:
(فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمؤا فيها ولا
تضحى) [طه: 117- 119] ورغبه إبليس أيضا في دوام الراحة بقوله:( هل أدلك على شجرة الخلد)
وفي انتظام المعيشة بقوله: (وملك لا يبلى) فكان الشيء الذي رغب الله آدم فيه هو الذي
رغبه إبليس فيه إلا أن الله تعالى وقف ذلك على الاحتراس عن تلك الشجرة وإبليس وقفه
على الإقدام عليها، ثم إن آدم عليه السلام مع كمال عقله وعلمه بأن الله تعالى مولاه
وناصره ومربيه أعلمه بأن إبليس عدوه حيث امتنع من السجود له وعرض نفسه للعنة بسبب عداوته،
كيف قبل في الواقعة الواحدة والمقصود الواحد قول إبليس مع علمه بكمال عداوته له وأعرض
عن قول الله تعالى مع علمه بأنه هو الناصر والمربي. ومن تأمل في هذا الباب طال تعجبه
وعرف آخر الأمر أن هذه القصة كالتنبيه على أنه لا دافع لقضاء الله ولا مانع منه، وأن
الدليل وإن كان في غاية الظهور ونهاية القوة فإنه لا يحصل النفع به إلا إذا قضى الله
تعالى ذلك وقدره ([85] ) .
-
{ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى}
في
هذه الآية بسط لأمل العاصي في قبول توبته، وقد قبلها من أبيه، فإنما نحن أبناؤه،
ويعترينا من النسيان والعصيان ما اعترى أبونا وزيادة ([86] ) .
- { قَالَ
اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}
بذلك أعلنت الخصومة في الثقلين،
فلم يعد هناك عذر لآدم وبنيه من بعده أن يقول أحد منهم إنما أخذت على غرة ومن حيث
لا أدري، فقد درى وعلم، وأعلن هذا الأمر العلوي في الوجود كله ([87] )
.
-
{ فَإِمَّا
يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا
يَشْقَى* وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا
وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى
وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا
وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ
بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى }
يا
من متعت نفسك بالمحرمات هل أنت مرتاح ؟!
تكذب
والله إن قلت نعم، رأينا من هم في حرية من أي قوانين كما يزعمون وأكبر حالات
الانتحار عندهم.
لا
تغفل حتى تموت اسأل نفسك عشر دقائق، لا ترتاح فوق الأرض لأنك تعصي الله، ولا ترتاح
تحت الأرض، ولا ترتاح يوم العرض، هذه مشكلة وهذا مصير لا بد أن نسأل أنفسنا ([88] ) .
بعد
ذكر قصة آدم وما فيها من العبر من مآل من يعرض عن أوامر الله، جاء بعدها هلاك من
يعرض عن ذلك أيضاً من هذه الأمة ([89] ) .
*****
المحور الثامن: (128 – 135) إنذار
للمشركين وإعذار، وتوجيه للنبي صلى الله عليه وسلم وإرشاد.
تضمنت
هذه الخاتمة إنذار وتهديد لأهل مكة بالإهلاك، بذكر إهلاك من سبقهم، وإعذار لهم،
حيث أرسل الله إليهم محمداً صلى الله عليه وسلم، فبشرهم وأنذرهم، وما بين الإنذار
والإعذار توجيهات ربانية للنبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بتعامله مع
المشركين، أو ما يتعلق بخصوص نفسه من التسبيح والصلاة ([90] ) .
وقفات من الآيات:
- {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى }
ويذكرنا
ذلك بقوله تعالى:{ مَا
أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ *
إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ}
- {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ
أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ
وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى }
لما
كانت الدنيا حلوة نضرة وما فيها من النعم نعم زائلة، شبهها الله بالزهر، لأن الزهر
له منظر حسن ثم يذبل ويضمحل ([92] ) .
-
{ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}
قال صاحب الظلال: فأول واجبات الرجل
المسلم أن يحول بيته إلى بيت مسلم وأن يوجه أهله إلى أداء الفريضة التي تصلهم معه بالله،
فتوحد اتجاههم العلوي في الحياة. وما أروح الحياة في ظلال بيت أهله كلهم يتجهون إلى
الله.
-
{ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا
نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى }
هذه
الصلاة والعبادة والاتجاه إلى الله هي تكاليفك والله لا ينال منها شيئاً، فالله
غني عنك وعن عبادة العباد، فالإنسان هو الرابح بالعبادة في دنياه وأخراه. يعبد
فيرضى، ويطمئن ويستريح. ويعبد فيجزى بعد ذلك الجزاء الأوفى، والله غني عن العالمين
([93] ) .
*****************
ختاماً:
قال
الشيخ محمد الشنقيطي: جعل الله السعادة لمن أطاعه واتقاه، وجعل الشقاء لمن عصاه،
يحكم ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب، هدى من شاء برحمته وفضله.
بالطاعة
تُفتح أبواب السعادة فيعيش الإنسان قريباً من الله، قُرباً يجد به الراحة والهناء.
ولا
يزال العبد يأخذ بأسباب السعادة التي تقوم على طاعة الله عز وجل حتى يكون من خيار
عباد الله، فيرتقي إلى أعلى درجات السعادة.
وقد
قال بعض العلماء: من كملت طاعته كملت سعادته، ومن نقصت طاعته نقص من سعادته بقدر
ما نقص من طاعته.
فأهل
السعادة الذين التزموا بطاعة الله جل وعلا يُكمل الله سعادتهم ويُجملها بأمر هو
أعظم الأمور وأجلها في هذه الدنيا بعد الإيمان ألا وهو حُسن الختام.
فأهل
السعادة يُختم لهم بخاتمة الرضوان والرحمة، هذه الخاتمة التي يقف الإنسان فيها على
آخر أعتاب هذه الدنيا قرير العين عن الله.
رسالة السورة:
قوله
تعالى: { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ }
وفاء باوزير
معهد تدبر
وفاء باوزير
معهد تدبر
بارك الله فيك معلمتي وبارك في طالباتك طالبات تدبر وزادكم من فضله .
ردحذفآمين يارب وإياكم
ردحذفجزاكم ربى الحسنى وزيادة
ردحذفجازاكم الله خيرا
ردحذفجزاكم الله خيرا
ردحذف