السبت، 19 أبريل 2014

طرق عرض القصة القرآنية

طرق عرض القصة القرآنية
وكان من آثار خضوع القصة في القرآن للغرض الديني -غير التكرار- أن تعرض بالقدر الذي يكفي لأداء هذا الغرض، ومن الحقة التي تتفق معه؛ فمرة تعرض القصة من أولها، ومرة من وسطها، ومرة من آخرها؛ وتارة تعرض كاملة، وتارة يكتفي ببعض حلقاتها، وتارة تتوسط بين هذا وذاك، حسبما تكمن العبرة في هذا الجزء أو ذاك. ذلك أن الهدف التاريخي لم يكن من بين أهداف القرآن الأساسية كالهدف القصصي سواء؛ فسارت القصة وهدفها الأول هو الهدف الديني، على النحو التالي:
1- نجد قصصًا تعرض منذ الحلقة الأولى: حلقة ميلاد بطلها؛ لأن في مولده عظة بارزة، وذلك مثل:
قصة آدم "منذ خلقه" وفيها مظهر لقدرة الله، وكمال علمه، ونعمته على آدم وبنيه. وفي حادثة إبليس معه بما فيها من أغراض دينية أشرنا من قبل إليها.
ومثل مولد عيسى ابن مريم: وهو يعرض تفصيل كامل، ذلك أن مولده هو الآية الكبرى في حياته؛ وحول هذا المولد قام الجدل كله؛ وعنه تفرعت كل قضايا المسيحية قبل الإسلام وبعده.
وقصة مريم: فقد نذرت لله وهي في بطن أمها، وتولى كفالتها زكريا؛ ثم رزقت منذ مولدها رزقًا حسنا من عند الله، فكانت {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ...
ثم تطوى حلقاتها حتى تأتي حلقة ميلاد عيسى. وهي الحلقة الهامة الثانية في حياتها.
وقصة موسى: لأن لمولده في عهد اضطهاد بني إسرائيل، وتذبيح الذكور من أطفالهم، ونجاته هو من ذلك مع وجوده بين آل فرعون أنفسهم ... قيمة خاصة في بيان رعاية الله له، وإعداده إعدادًا خاصًّا للمهمة التي سينهض بها. ثم تذكر من حياته حلقاتها ذات المغزى.
وإسماعيل وإسحاق تعرض حلقة مولدهما؛ لأن في هذا المولد عبرة. فأولهما رزقة إبراهيم على الكبر، وأسكنه -على الرغم منه- بجواز البيت المحرم، والثاني بشر به وامرأته عجوز. وقد بلغ من الكبر عتيًّا.
وكذلك يذكر مولد يحيى لزكريا؛ بعد أن وهن منه العظم واشتعل الرأس شيئًا.
2- ونجد قصصًا أخرى تعرض من حلقة متأخرة نسبيًّا:
فيوسف تبدأ قصته صبيًّا. فمن هذه الحلقة يرى الرؤيا التي تسير حياته كلها، وتؤثر في مستقبلة جميعًا، إذ يرى أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر له ساجدين؛ فيدرك أبوه مغزاها ويقربه إليه، فيغار إخوته منه ... ثم تسير القصة في طريقها المرسوم بعد هذه الرؤيا.
وإبراهيم تبدأ قصته فتى ينظر في السماء فيرى نجمًا، فيظنه إلهه، فإذا أفل قال: لا أحب الآفلين. ثم ينظر مرة أخرى فيرى القمر، فيظنه ربه؛ ولكنه يأفل كذلك، فيتركه ويمضي. ثم ينظر إلى الشمس فيعجبه كبرها، ويظنها -ولا شك- إلهًا!
ولكنها تخلف ظنه هي الأخرى، فيفيء إلى ربه الذي لا يرى ... ويدعو أباه وقومه إلى هذا الإله الواحد فلا يجيبونه، فيحطم أصنامهم في غفلة منهم حيث يقولون: {سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} ويهمونه بإحراقه، فينجيه الله منهم: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} .
وتبدأ قصة داود وهو في مقتبل الشباب. تبدأ بحلقة صراعه لجالوت -وهو فارس ضخم مشهور- فيغلب عليه داود؛ لأن الله ينصره. ومن هنا تبدأ قصته.
ولعل سليمان كان في مثل سن أبيه حينما جلس معه يحكم في قضية الحرث. {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} .
ولقد كان هذا الحكم المبكر دلالة على ما أعده الله لسليمان من تدبير الملك الأكبر.
3- ثم نجد قصصًا لا تعرض إلا في حلقة متأخرة جدًّا.
فنوح وهود وصالح ولوط وشعيب، وكثيرون غيرهم، لا تعرض قصصهم إلا عند حلقة الرسالة، وهي الحلقة الوحيدة التي تعرض من حياتهم؛ لأنها أهم حلقة منها، والعبرة كامنة فيها.
هذا كله من ناحية الابتداء. وأما من ناحية الإطناب والإيجاز فهما كذلك خاضعان لما في حلقات القصة من عظة وأهمية.
نضرب لذلك الأمثال فيما يلي:
1- قصة كقصة موسى تذكر بجميع حوادثها وتفصيلاتها، منذ مولده -بل قبل مولده- إلى وقوفه بقومه أمام الأرض المقدسة، حيث كتب عليهم التيه أربعين سنة، جزاءً وفاقًا؛ لأن في كل حلقة من حلقات القصة غرضًا دينيًّا يبرز، وله صلة بأهداف القرآن العليا.
وكذلك قصة عيسى -مع شيء من الاختصار في حلقاتها الوسطى- يذكر مولده بتفصيل كامل. تذكر معجزاته بتوفية. وتذكر قصته مع الحواريين حين طلبوا المائدة فأنزلت إليهم. وتذكر حلقة تكذيبه ومحاولة صلبه ورفعه، وتفرق قومه من بعده. ويزاد عليها تصوير موقفه يوم القيامة يسأله الله: إن كان قد قال لقومه: اتخذوني وأمي إلهين من دون الله، فيتبرأ من ذلك إليه، ويذكر أنه دعاهم لله وحده، وأنه يدع أمرهم لله إن يشأ يرحمهم، وإن يشأ يعذبهم.
ومنذ أن تبدأ قصة يوسف تسير مفصلة حتى تنتهي. فما يقع له مع إخوته، وما يحدث له في مصر بعد شرائه وتربيته، ومراودة امرأة العزيز له. وسجنه، وتعبيره رؤيا خادمي الملك، ثم تعبيره رؤيا الملك. وخروجه، وولايته "على خزائن الأرض" "وزارتي المالية والتموين"! ومجيء إخوته ودعوتهم، ومجيء أخيه وعودة إخوته لأبيهم بدونه. وكمال القصة بقدوم أبيه وأهله.. كلها تفصل تفصيلًا دقيقًا؛ لأن التفصيل مقصود، أولًا: لإثبات الوحي والرسالة كما أسلفنا، وثانيًا: لأن لهذه التفصيلات قيمتها الدينية في القصة.
وقصة إبراهيم لا تعرض من أولها؛ ولكن تعرض منها حلقات شتى: حلقة إيمانه التي أسلفنا، ومحاورته لأبيه وقومه، وتحطيم الأصنام، واعتزاله أباه وقومه. وهبة إسماعيل وإسحاق له، ورؤياه أنه يذبح ابنه، وافتداؤه. وبناء الكعبة والتأذين في الناس للحج. وطلبه من ربه برهانًا على إحياء الموتى، لا ليؤمن فقد آمن، ولكن ليطمئن قلبه، حيث أمره الله أن يأخذ أربعة من الطير، فيضمهن إليه، ثم يجعل على كل جبل منهن جزءًا، ثم يدعوهن فيأتين إليه سعيًا.. إلخ..
ومن قصة سليمان تعرض كذلك حلقات مطولة: حكمه في الحرث. وملكه. وفتنته بالخيل الجياد، واستغفاره الله من هذه الفتنة. وتسخير الشياطين والرياح له: ثم فتنته الأخرى التي لا يذكر القرآن سببها -وتذكر التوراة أنها المرأة- وقصته مع النملة ومع الهدهد ومع بلقيس. وموته وهو متكئ على عصاه والشياطين لا تعلم.. وما في ذلك كله من مغازي مقصودة.
2- وهناك قصص متوسطة التفصيل:

فقصة نوح تذكر منها تفصيلات رسالته، ودعوته لقومه واستكبارهم عنها. وحلقة صنع السفينة. وحلقة الطوفان، وغرق ابنه، ودعائه الله أن يحييه، وعدم استجابته له؛ لأنه ليس من أهله، ولو كان ابنه؛ لأنه عمل غير صالح!
وقصة آدم تفصل تفصيلا في نشأته، وخطيئته، وهبوطه، وتوبته، واستجابة الله له.
وقصة مريم يطنب فيها عند مولدها، وعند مولد عيسى.
وقصة داود تنال شيئًا من التفصيل، لا يبلغ تفصيل قصة سليمان، ولكنه يتناول حلقات كثيرة منها.
3- وهناك قصص قصيرة:
فقصص هود وصالح ولوط وشعيب -مع تكرارها- قصيرة؛ لأنها تعرض عند حلقة الرسالة وحدها، فتتضمن الرسالة والحوار مع قومهم، وتكذيب هؤلاء القوم، ثم إهلاكهم جميعًا.
وقصة إسماعيل تذكر عند مولده، وعند افتدائه من الذبح، وعند اشتراكه في بناء الكعبة مع أبيه، في اختصار نسبي، في هذه الحلقات جميعًا.
وقصة يعقوب تذكر في سياق قصة يوسف؛ وتذكر مرة أخرى:
{إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ} .
وقد أفردت هذه الحلقة هنا لأهميتها في بيان التوحيد الذي أوصى به يعقوب.
4- وهناك قصص متناهية في القصر:
فقصة زكريا تذكر عند مولد يحيى: وعند كفالته لمريم.
وقصة أيوب تذكر عند مس الضر له، ثم استغاثته بالله وشفائه ورد أهله إليه. وقصة يونس تذكر عند ابتلاع الحوت له ثم نبذه بالعراء، ورسالته لقومه وإيمانهم به.
5- وقصص يشار إليها ولا يذكر شيء عنها -إلا وصفًا خاطفًا لأصحابها: كقصص إدريس واليسع وذي الكفل؛ وطائفة أخرى لا تذكر إلا أسماؤهم في صدد استعراض سجل الأنبياء.
6- فأما القصص الأخرى المتفرقة كقصة أصحاب الأخدود. وأهل الكهف. وابني آدم. وصاحب الجنتين. وأصحاب الجنة، وسد مأرب. والذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها ... وهي القصص الوعظية البحتة، فتعرض بالقدر الذي يبلغ العظة، وقد استعرضنا بعضها سلفًا، وسنستعرض البعض الآخر لحقًا.
التصور الفني في القرآن الكريم
سيد قطب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

رأيك يهمنا