الثلاثاء، 21 ديسمبر 2010

أسباب أكل لحوم العلماء وآثارها وما يجب علينا تجاه العلماء

أسباب أكل لحوم العلماء

1- الغَيْرة والغِيرة:

أما الغَيرة - بالفتح - فهي محمودة، وهي أن يغار المرء وينفعل من أجل دين الله، وحرمات الله - جل وعلا - لكنها قد تجر صاحبها - إن لم يتحرز - شيئا فشيئا، حتى يقع في لحوم العلماء من حيث لا يشعر.

وأما الغيرة - بالكسر- فهي مذمومة، وهي قرينة الحسد، والمقصود بها هو: كلام العلماء بعضهم في بعض (الأقران) قال سعيد بن جبير: "استمعوا لعلم العلماء، ولا تصدقوا بعضهم على بعض، فوالذي نفسي بيده لهم أشد تغايرا من التيوس في ضرابها" أي: استفيدوا من علم العلماء، ولكن لا تصدقوا كلام بعضهم على بعض، من الأقران. ولذلك قال الذهبي: "كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به، لا سيما إذا كان لحسد أو مذهب أو هوى".

2- الحسد:

والحسد يعمي ويصم، ومنه التنافس للحصول على جاه أو مال، فقد يطغى بعض الأقران على بعض، ويطعن بعضهم في بعض، من أجل القرب من سلطان، أو الحصول على جاه أو مال.

3- الهوى:

إن بعض الذين يأكلون لحوم العلماء لم يتجردوا لله - تعالى - وإنما دفعهم الهوى، للوقوع في أعراض علماء الأمة. واتباع الهوى لا يؤدي إلى خير، قال - تعالى -: ( وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ )(صّ: من الآية26)، وقال - سبحانه -: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ )(القصص: من الآية50).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "صاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه". وكان السلف يقولون: "احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه، وصاحب دنيا أعمته دنياه".

4- التقليد:

لقد نعى الله - تعالى - على المشركين تقليدهم آباءهم على الضلال: ( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ)(الزخرف: من الآية22).

والتقليد ليس كله مذموما، بل فيه تفصيل ذكره العلماء، ولكنني في هذا المقام أحذر من التقليد الذي يؤدي إلى نهش لحوم العلماء، فإنك - أحيانا - تسمع بعض الناس يقع في عرض عالم، فتسأله: هل استمعت إلى هذا العالم؟ فيقول: لا والله. فتقول: إذن كيف علمت من حاله وأقواله كذا وكذا ؟! فيقول: قاله لي فلان ([1]). هكذا يطعن في العالم تقليدا لفلان، بهذه السهولة، غير مراع حرمة العالم.

قال ابن مسعود: "ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلا، إن آمن آمن، وإن كفر كفر، فإنه لا أسوة في الشر" وقال أبو حنيفة: "لا يحل لمن يفتي من كتبي أن يفتي حتى يعلم من أين قلت".وقال الإمام أحمد: " من قلة علم الرجل أن يقلد دينه الرجال".

5- التعصب:

من خلال سبري لأقوال الذين يتحدثون في العلماءـ وبخاصة طلاب العلم والدعاةـ تبين لي أن التعصب من أبرز أسباب ذلك. والباعث على التعصب هو الحزبية، الحزبية لمذهب أو جماعة أو قبيلة أو بلد، الحزبية الضيقة التي فرقت المسلمين شيعا، حتى صدق على بعضهم قول الشاعر:

وهل أنا إلا من غزية إن غوت

غويت، وإن ترشد غزية أرشد

سمعت أن بعض طلاب العلم يتكلمون في بعض العلماء، وفجأة تغير موقفهم، وصاروا يثنون عليه، لأنهم سمعوا أن فلانا يثني عليه، فأثنوا عليه، وسبحان الله مغير الأحوال.

إذا ضل من يتعصبون له، ضلوا معه، وإذا اهتدى للصواب، اهتدوا معه. لقد سلم بعض الطلاب والدعاة عقولهم لغيرهم، وقلدوا في دينهم الرجال.

ولقد رأينا قريبا من ينتصر لعلماء بلده، ويقدح في علماء البلاد الأخرى، سبحان الله ! أليست بلاد المسلمين واحدة ! أليس هذا من التعصب المذموم! أليس من الشطط أن يتعصب أهل الشرق لعلماء الشرق، وأهل الغرب لعلماء الغرب، وأهل الوسط لعلماء الوسط!.

إن هذا التعصب مخالف للمنهج الصحيح، الذي يدعونا إل أن نأخذ بالحق مهما كان قائله، ولهذا قال أبو حامد الغزالي في ذم التعصب: "وهذه عادة ضعفاء العقول، يعرفون الحق بالرجال، لا الرجال بالحق".

6- التعالم:

لقد كثر المتعالمون في عصرنا، وأصبحت تجد شابا حدثا يتصدر لنقد العلماء، ولتفنيد آرائهم وتقوية قوله،وهذا أمر خطير، فإن من أجهل الناس من يجهل قدر نفسه،ويتعدى حدوده.

7- النفاق وكره الحق:

قال الله - تعالى - عن المنافقين: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً )(البقرة: من الآية10)، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ) (البقرة:13)، (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) (البقرة:14).

إن المنافقين الكارهين للحق، من العلمانيين، والحداثيين، والقوميين، وأمثالهم، من أقوى أسباب أكل لحوم العلماء، لما في قلوبهم من المرض والبغض للحق وأهله.

ومن المؤسف المحض أنني استمعت في مجلس من المجالس إلى أحد هؤلاء المنافقين، يستطيل في أعراض العلماء، فقلده بعض الطيبين من حيث لا يشعر، ووافقه على ما يقول، حتى رد عليه في ذلك المجلس.

إن العلمانيين الآن يتحدثون في علمائنا بكلام بذيء، يعف القلم عن تسطيره، مما يدل علىما في قلوبهم من الدغل، ومعاداة ورثة الأنبياء، وما يحملونه من الحق.

8- تمرير مخططات الأعداء كالعلمنة ونحوها:

أدرك العلمانيون - أخزاهم الله- أنه لا يمكن أن تقوم لهم قائمة، والعلماء لهم شأن وهيئة وهيبة في البلد، فأخذوا في النيل من العلماء، وشرعوا في تشويه صورة العلماء،وتحطيم قيمتهم، بالدس واللمز، والافتراء والاختلاف. لا أقول هذا جزافا ولا رجما بالغيب، ولكن ذلك هو ما نقله إلينا الثقات عن العلمانيين، من كلام في العلماء لا يقبله عقل العامي، فَضْلا عن طالب العلم.

ثالثاً: الآثار المترتبة على الوقيعة في العلماء

إن هناك عواقب وخيمة، ونتائج خطيرة، وآثارا سلبية، تترتب على أكل لحوم العلماء، والوقوع في أعراضهم. يدرك تلك الآثار من تأمل في الواقع،ووسع أفقه، وأبعد نظره، وإليك أهمها:

1- أن جرح العالم سبب في رد ما يقوله من الحق:

إن جرح العالم ليس جرحا شخصيا،كأي جرح في رجل عامي، ولكنه جرح بليغ الأثر، يتعدى الحدود الشخصية، إلى رد ما يحمله العالم من الحق. ولذلك استغل المشركون من قريش هذا الأمر، فلم يطعنوا في الإسلام أولا، بل طعنوا في شخص الرسول، r لأنهم يعلمون - يقينا - أنهم إن استطاعوا أن يشوهوا صورة الرسول r في أذهان الناس، فلن يقبلوا ما يقوله من الحق. قالوا: إنه ساحر، كاهن، مجنون.. ولكنهم فشلوا - ولله الحمد - في ذلك. وقد كانوا قبل بعثته يصفونه بالأمين، الصادق، الحكم، الثقة. فما الذي تغير بعد بعثته؟ ما الذي حوله إلى كاهن، مجنون، ساحر ؟ إنهم لا يقصدون شخص محمد بن عبد الله، فهم يعلمون أنه هو هو، ولكنهم يقصدونه بصفته رسولا يحمل منهجا هم يحاربونه، فعلموا أنهم إن استطاعوا تشويه صورته في نفوس الناس، فقد نجحوا في صدهم عنه، وعما معه من الحق. وهذا هو أسلوب المنافقين اليوم.

2- أن جرح العالم جرح للعلم الذي معه:

وهو ميراث النبي، r إذ العلماء ورثة الأنبياء، فجرح العالم جرح للنبي، عليه الصلاة والسلام، وهذا هو معنى قول ابن عباس: " من آذى فقيها فقد آذى رسول الله r ومن آذى رسول الله، r فقد آذى الله - جل وعلا".

إذن، فالذي يجرح العالم يجرح العلم الذي معه.

ومن جرح هذا العلم، فقد جرح إرث النبي، r وعلى ذلك فهو يطعن في الإسلام من حيث لا يشعر.

3- أن جرح العلماء سيؤدي إلى بعد طلاب العلم عن علماء الأمة:

وحيئنذ يسير الطلاب في طريقهم بدون مرشدين، فيتعرضون للآخطار والأخطاء، ويقعون في الشطط والزلل، وهذا ما نخشاه على شبابنا اليوم.

4- أن تجريح العلماء تقليل لهم في نظر العامة:

وذهاب لهيبتهم، وقيمتهم في صدورهم، وهذا يسر أعداء الله، ويفرحهم، يقول أحد الزعماء الهالكين في دولة عربية بعد أن سلط إعلامه على العلماء، مستهترا مستهزئا بهم -: "عالم.. شيخ.. أعطه فرختين؛ فيفتي لك بالفتوى التي تريد".

لقد سقطت قيمة العلماء عند العامة في كثير من الدول الإسلامية. ذهبت إلى بعض تلك الدول، وسألت عن العلماء، فما وجدت الناس يعرفون العلماء، ولا يأبهون للعلماء؛ لأن العلمنة سلطت سهامها عليهم، فشوهت صورتهم، ولطخت سمعتهم؛ فأصبحوا من سقط المتاع، في نظر كثير من الناس.

رابعاً: ما يجب علينا تجاه العلماء

1- أن نحفظ للعلماء مكانتهم، وفاعليتهم في قيادة الأمة، وأن نتأدب معهم:

إن في معاملة السلف لعلمائهم لقدوة لنا، يجب الاقتداء بها، وإن فيما سطروه من بيان لآداب طالب العلم لنورا، ينبغي لشداة العلم أن يستنيروا به في طريق الطلب.

قال العراقي: "لا ينبغي للمحدث أن يحدث بحضرة من هو أولى منه بذلك. وكان إبراهيم والشعبي إذا اجتمعا لم يتكلم إبراهيم بشيء".

وقال ابن الشافعي: "ما سمعت أبي ناظر أحدا قط فرفع صوته"

وقال يحيي بن معين: "الذي يحدث بالبلد وفيها من هو أولى منه بالتحديث فهو أحمق"

وقال الصعلوكي: "من قال لشيخه: لِمَ - على سبيل الاستهزاء - لم يفلح أبدا".

وتأدب ابن عباس رضي الله عنه مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث مكث سنة وهو يريد أن يسأله عن مسألة من مسائل العلم، فلم يفعل.

وقال طاووس بن كيسان: "من السنة أن يوقر العالم".

وقال الزهري: "كان سلمة يماري ابن عباس، فحرم بذلك علما كثيرا".

وقال البخاري: "ما رأيت أحدا أوقر للمحدثين من يحيى بن معين".

وقال المغيرة: "كنا نهاب إبراهيم كما نهاب الأمير".

وقال عطاء بن أبي رباح: "إن الرجل ليحدثني بالحديث، فأنصت له، كأني لم أسمعه أبدا. وقد سمعته قبل أن يولد".

وقال الشافعي: " ما ناظرت أحدا قط إلا تمنيت أن يجري الله الحق على لسانه".

وذكر أحد العلماء عند الإمام أحمد بن حنبل - وكان متكئا من علة - فاستوى جالسا وقال: لا ينبغي أن يذكر الصالحون فنتكئ.

وقال الجزري: "ما خاصم ورع قط".

وبمثل هؤلاء يحسن الاقتداء (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ )(الأنعام: من الآية90).

2- أن نعلم أنه لا معصوم إلا من عصم الله وهم الأنبياء ([2]) والملائكة:

وعلى ذلك فيجب أن ندرك أن العالم معرض للخطأ، فنعذره حين يجتهد فيخطئ، ولا نذهب نتلمس أخطاء العلماء ونحصيها عليهم.

ولقد كان سلف الأمة - رحمهم الله - يستحضرون هذا الأمر، ويفقهونه حق الفقه.

قال الإمام سفيان الثوري: "ليس يكاد يثبت من الغلط أحد"

وقال الإمام أحمد: "ومن يعرى من الخطأ والتصحيف !!".

وقال الترمذي: "لم يسلم من الخطأ والغلط كبير أحد من الأئمة مع حفظهم".

وقال ابن حبان: "وليس من الإنصاف ترك حديث شيخ ثبت صحة عدالته بأوهام يهم في روايته، ولو سلكنا هذا المسلك، ترك حديث الزهري وابن جريج والثوري وشعبه؛ لأنهم أهل حفظ وإتقان، ولم يكونوا معصومين حتى لا يهموا في رواياتهم".

3- أن ندرك أن الخلاف موجود منذ عهد الصحابة، إلى أن تقوم الساعة:

لذلك يجب أن تتسع صدورنا للخلاف بين العلماء ([3]) فلكل واحد منهم فهمه، ولكل واحد اطلاعه على الأدلة، ولكل واحد نظرته في ملابسات الأمور، فمن الطبيعي أن يوجد الخلاف بينهم، وانظر ما ذكره كثير من العلماء في هذا الموضوع، ككتاب "رفع الملام عن الأئمة الأعلام"، لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -.

4- أن نفوت الفرصة على الأعداء، وننتبه إلى مقاصدهم وأغراضهم:

وأن ندافع عن علمائنا، لا أن نكون من وسائل تمرير مخططات الأعداء من حيث لا نشعر.

5- أن نحمل أقوال علمائنا وآراءهم على المحمل الحسن:

وألا نسيء الظن فيهم، وإن لم نأخذ بأقوالهم.

حقا أننا لسنا ملزمين بالأخذ بكل أقوال العلماء، لكن ثمة فرقا كبيرا بين عدم الأخذ بقول العالم - إذا كان هناك دليل يخالفه - والجرح فيه، فلا يعني عدم اقتناعنا برأي العالم أن نستبيح عرضه، ونأكل لحمه. فلا يعني عدم اقتناعنا برأي العالم أن نستبيح عرضه، ونأكل لحمه. ولقد كان الإمام الشافعي - رحمه الله - يقول: "إذا صح الحديث فهو مذهبي" ونقل ذلك عن غير واحد من الأئمة، فقد كانوا يدركون أنه ليس أحد متعبدا بقول عالم، فقد يكون قوله مخالفا للدليل، لأنه لم يبلغه - مثلا - لكن تبقى حرمة العالم مصونة من الطعن والوقيعة.

قال عمر رضي الله عنه "لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المسلم سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا".

6- أن ننتبه إلى أخطائنا وعيوبنا نحن، وننشغل بها عن عيوب الناس عامة، وعن أخطاء العلماء خاصة.

يا واعظ الناس قد أصبحت متهما وأعظم الإثـم بعد الشـرك نعلمه عرفتها بعيــوب الناس تبصرها

إن عبت منهم أمورا أنت تأتيها في كل نفس عماها عن مساويها منهم، ولا تبصر العيب الذي فيها

وما مثل من يقع في أعراض العلماء وينسى نفسه إلا كما قال الشاعر:

كناطح صــخرة يومـا ليوهنها

فلم يضرها، وأوهى قرنه الوعل

أو كما قال الآخر:

يا ناطح الجبـل العالـي ليثلمـه

أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل

قد يقصر العالم، ولكن هل يعني تقصيره أن نترك علمه وعمله ؟!

اعمل بعلمي وإن قصرت في عملي

ينفعك علمي، ولا يضررك تقصيري

خامساً: السبيل السليم لبيان الحق، بدون الوقوع في العلماء

بعض الناس اليوم وقعوا بين إفراط وتفريط، ففريق يطعنون في العلماء ويتهمونهم كلما قالوا شيئا.

وفريق آخر، إذا سمعوا عالما أو طالب علم يبين الحق بدليله قالوا: إنه يقع في أعراض العلماء، ويحدث فتنة.

وكلا الفريقين مجانب للمنهج الصحيح في هذا الباب.

فما المنهج الصحيح الذي نجمع فيه بين بيان الحق وحماية أعراض علمائنا، غير ملتزمين بقول إلا إذا كان مقرونا بالدليل؟

يمكن توضيح ذلك المنهج كما يلي:

1- التثبت من صحة ما ينسب إلى العلماء:

فقد يشاع عن العلماء أقوال؛ لأغراض لا تخفى، فيجب التأكد مما ينقل عن العلماء، فقد يكون غير صحيح، ولا أساس له، وكم سمعنا من أقوال نسبت إلى كبار علمائنا، ولما سألناهم عنها تبين أنهم براء منها. هناك غير قليل من الناس يجلس أحدهم في المجلس ويقول: الشيخ فلان - هداه الله - فيه كيت وكيت. فتسأله: لماذا ؟ فيقول: إنه يقول: كذا وكذا. حتى إذا ذهبت إلى ذلك الشيخ وسألته عن صحة ما نقل عنه، قال: والله ما قلت شيئا من هذا !!.

إذن، فالتحقق من صحة ما يعزى إلى العالم يعد خطوة أولى في المنهج الصحيح، الذي نحن بصدده.

2- أن نعرف أن عدم الأخذ بقول العالم، وأن مناقشته، والصدع ببيان الحق، يختلف تماما عن الطعن في العلماء:

فالفرق بين الأمرين عَظِيمٌ جدا، يجوز لنا ألا نأخذ بالفتوى، إذا لم توافق الدليل، لكن لا يجوز لنا الطعن في العلماء.

3- أن يقصد المتحدث بكلامه وجه الله - جل وعلا -.

فيستحضر الإخلاص، ويحذر من الأغراض الشخصية العارضة كالهوى، والتشفي، وحب الظهور، (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)(الكهف: من الآية110).

ولينتبه فإنه قد يكون رده في الأصل بإخلاص وتجرد لله، ثم تدخل عليه أعراض يوسوس إليه بها الشيطان، من حب البروز وغيره من الآفات المفسدة للنية.

4- الإنصاف والعدل:

المتأمل في واقع بعض طلاب العلم يجدهم إما أن يأخذوا كل ما يقوله العالم، أو يردوا كل ما يقوله، وهذا خلاف ما أمر الله - تعالى - به من العدل والإنصاف، قال - تعالى -: ( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى )(المائدة: من الآية8) والعدل والإنصاف هو منهج أهل السنة والجماعة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أهل السنة أعدل مع المبتدعة من المبتدعة بعضهم مع بعض".

والعدل والإنصاف مع العلماء يتضمن أمورا:

أ - الثناء على العالم بما هو أهل له. 0

ب - عدم التجاوز في بيان الخطأ الذي وقع فيه، فإذا وقع أحد العلماء في خطأ، وأردت أن تبين خطأه، فلا تذهب تحصي جميع أخطائه، وتستطيل في عرضه، وإنما احصر حديثك في القضية التي تريد بيان الحق فيها، ولا تتجاوزها، وإياك أن يستجرك أحد إلى تجاوزها.

5- أن نسلك منهج رجال الحديث في تقويم الرجال:

إن على من يتصدى لبيان الحق في مسألة أخطأ فيها أحد العلماء، أن يسلك المنهج الدقيق المنصف الذي رسمه رجال الحديث - رحمهم الله - وثمة رسالة جميلة مختصرة، صغيرة في حجمها، كبيرة في قيمتها، تبين هذا المنهج، وعنوانها: منهج أهل السنة والجماعة في تقويم الرجال ومؤلفاتهم للشيخ أحمد الصويان. فأحيل القارئ الكريم إليها، ففي النهر ما يغني عن الوشل.

6- أن نعلم أن خطأ العالم على نوعين: خطأ في الفروع. وخطأ في الأصول:

أما مسائل الفروع فهي مسائل اجتهادية، يجوز فيها الخلاف، فإذا أخطأ فيها العالم، بينا خطأه فيها، بدون تعرض لشخصه.

وأما مسائل الأصول (العقيدة)، فيبين القول الصحيح بها، ويحذر من أهل البدع في الجملة، وينبه إلى خطورة الداعي إلى بدعته، بدون إفراط ولا تفريط. يقول شيخ الإسلام: "أهل السنة أعدل مع المبتدعة من المبتدعة بعضهم مع بعض" فالمبتدعة يأكل بعضهم لحوم بعض، وكل فئة تغمط الأخرى حقها، وأما أهل السنة فينصفون، حتى مع الكفار، فَضْلا عمن كان مخطئا خطأ دون الكفر.

إن بعض الناس اليوم يميلون ميلا عظيما عن طريق أهل السنة والجماعة في هذا الباب، فقد استمعت منذ فترة إلى قصة مؤلمة محزنة، وهي أن نفرا اتهموا أحد الدعاة بأخطاء في العقيدة، ولم يقتصروا على بيان أخطائه العقدية، بل مضوا يذكرون عنه قصصا شخصية في بيته: عن زوجته، وعن بنته، وعن أولاده، سبحان الله ! لماذا الحديث عن زوجته وبنته وأولاده ؟! ما الداعي للطعن في شخصه ؟! حقا إننا لا نحث على السكوت عن الخطأ، ولكننا ندعو إلى الأسلوب الصحيح، لبيان الحق، وتوضيح الخطأ.

7- أخيرا، إذا أمكن الاتصال بمن وقع منه الخطأ - سواء في الأصول أو الفروع - لعله يرجع إلى الصواب، فهذا أولى:

لأن الحق هو المقصود، وفي رجوع المخطئ بنفسه عن قوله وإعلانه ذلك للناس خير كثير، لأنك إن رددت عليه، وبينت الحق، فقد يقتنع نصف الناس، أما إذا رجع هو بنفسه بعد مناصحتك له، وتخويفك إياه بالله، فسيقتنع كل الناس الذين أخذوا بقوله.

ومما يذكر في هذا المقام أن اثنين من العلماء اختلفا في مسألة، فلم يذهب كل واحد مهما يخطئ صاحبه عند الناس، بل اجتمعا وتناظرا، فكانت نهاية المناظرة أن أخذ كل واحد منهما بقول الآخر؛ لأن مرادهما هو الحق.

سادساً: أمور لا بد من بيانها :

1- أننا لا ندعو إلى تقديس الأشخاص، أو التغاضي عن الأخطاء، أو السكوت عن الحق. بل ندعو إلى المنهج الصحيح في بيان الحق، بدون انتهاك لأعراض العلماء، فلا إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا جفاء.

2- لماذا تبرز أخطاء العلماء أكثر من غيرهم ؟

السبب في ذلك هو أن العلماء هم صفوة الأمة، وخيارها، وقدوتها، وأحمدها سيرة، فإذا وقع منهم خطأ كان واضحا جليا، لأنه بمثابة النقطة السوداء في صفحتهم الناصعة البيضاء. ولذلك قيل: زلة العالم مضروب بها الطبل.

وما مثل العالم إلا كمثل الثوب الأبيض، إذا أصابته نقطة - مهما كان صغرها - برزت فيه وظهرت. ومن هنا وجب على العلماء أن يتنبهوا لذلك الأمر، بأن يتفقدوا أنفسهم، ويتفطنوا لأعمالهم وتصرفاتهم وأقوالهم. كما وجب - كذلك - على الناس ألا يضخموا هفوات علمائهم، ولا ينفخوا فيها.

3- احذر من الذم الذي يشبه المدح:

بعض الناس يسهب في الثناء على شيخ من المشايخ، ويخلع عليه من نعوت الفضل وألقاب التوقير شيئا كثيرا، ثم يقول - مثلا - (لكن الشيخ حبيب) أو طيب القلب، وهو يقصد أنه قد يستغفل، أو غير ذلك من الأساليب المغلفة بغلاف المدح، وهي للتنقص. وإن على هؤلاء الذين يستخدمون هذه الأساليب، أن يخافوا الله ويتقوه، وأن يدركوا خطورة ما يقولون، وأن يتوبوا إلى الله، ويستغفروه، وأن يعتذروا ممن انتقصوه.

4- أن من أساء الأدب مع العلماء فسيلقى جزاءه، عاجلا أو آجلا:

قال الإمام الذهبي في ترجمة ابن حزم: "وصنف كتبا كثيرة، وناظر عليه، وبسط لسانه وقلمه، ولم يتأدب مع الأئمة في الخطاب. بل فجج العبارة، وسب وجدع، فكان جزاؤه من جنس فعله، بحيث إنه أعرض عن تصانيفه جماعة من الأئمة، وهجروها، ونفروا منها، وأحرقت في وقته".

والواقع يشهد أن الذي يسبب العلماء، ويتجرأ عليهم، يسقط من أعين العامة والخاصة.

ويقول الحافظ ابن رجب: "والواقع يشهد بذلك، فإن من سبر أخبار الناس، وتواريخ العالم، وقف على أخبار من مكر بأخيه، فعاد مكره عليه، وكان ذلك سببا لنجاته وسلامته". أي: سببا لنجاة الممكور به وسلامته.

5- على العلماء وطلاب العلم الذين يبتلون بالتعرض للطعن، وكلام الناس فيهم، عليهم أن يصبروا ويتقوا الله، وأن يعلموا أنهم ليسوا أفضل من الأنبياء والمرسلين، فالرسول r لم يسلم من الكلام فيه، وطعن حتى في أهله، في حادثة الإفك، فللعلماء أسوة في رسول الله r فليقتدوا به، وليعلموا أن العاقبة للمتقين، قال - تعالى -: ( قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)(يوسف: من الآية90).

وقال - جل وعلا - عن موسى: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (الأعراف:128) وقال - سبحانه -: ( وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ )(فاطر: من الآية43).

وصدق من قال:

ولست بناج من مقـالة طـــاعن ومن ذا الذي ينجو من الناس سالما

ولو كنت في غار على جبل وعر ولو غاب عنهم بين خافيتي نسر

6- أخيرا أقول للمتحدثين في العلماء: اتقوا الله، توبوا إلى الله، أنيبوا إلى الله، أثنوا على العلماء بمقدار غيبتكم لهم، وإلا فأنتم الخاسرون، والعاقبة للمتقين. وما مثلكم إلا كما قال الأول:

كناطح صخرة يوما ليوهنها

فلم يضرها، وأوهى قرنه الوعل

وقول الآخر:

يا ناطح الجبل العالي ليثلمه

أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل

فتنبهوا، وصححوا المنهج، وانظروا في العواقب، واحفظوا حرمات الله، يحفظكم الله، ويغفر لكم.

منقول من كتاب "سورة الحجرات دراسة تحليلية وموضوعية

الدكتور / ناصر العمر

حفظه الله


[1] - وليس المراد أن فلانا نقل له كلامه - فهذا هو السند وهو مصدر صحيح إذا كان الناقل ثقة، ولكن المراد أن فلانا سبه وقدح فيه، فسبه تبعا له دون تبين.

[2] - لا تخفى عقيدة أهل السنة في موضوع عصمة الأنبياء وفي حدود هذه العصمة فليعلم، ومن أراد مزيد بيان فليرجع إلى شرح العقيدة الطحاوية.

[3] - وأعني به خلاف الفروع لا الأصول، وانظر رسالة الدكتور صالح بن حميد في أدب الخلاف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

رأيك يهمنا