{ وتفقد الطير فقال: ما لي لا أرى الهدهد؟ أم كان من الغائبين؟ لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه، أو ليأتيني بسلطان مبين }॥فها هو ذا الملك النبي। سليمان। في موكبه الفخم الضخم. ها هو ذا يتفقد الطير فلا يجد الهدهد. ونفهم من هذا أنه هدهد خاص، معين في نوبته في هذا العرض. وليس هدهداً ما من تلك الألوف أو الملايين التي تحويها الأرض من أمة الهداهد. كما ندرك من افتقاد سليمان لهذا الهدهد سمة من سمات شخصيته: سمة اليقظة والدقة والحزم. فهو لم يغفل عن غيبته جندي من هذا الحشر الضخم من الجن والإنس والطير، الذي يجمع آخره على أوله كي لا يتفرق وينتكث.وهو يسأل عنه في صيغة مترفعة مرنة جامعة: { ما لي لا أرى الهدهد؟ أم كان من الغائبين؟ }.
ويتضح أنه غائب، ويعلم الجميع من سؤال الملك عنه أنه غائب بغير إذن! وحينئذ يتعين أن يؤخذ الأمر بالحزم، كي لا تكون فوضى। فالأمر بعد سؤال الملك هذا السؤال لم يعد سراً. وإذا لم يؤخذ بالحزم كان سابقة سيئة لبقية الجند. ومن ثم نجد سليمان الملك الحازم يتهدد الجندي الغائب المخالف: { لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه }॥ ولكن سليمان ليس ملكاً جباراً في الأرض، إنما هو نبي. وهو لم يسمع بعد حجة الهدهد الغائب، فلا ينبغي أن يقضي في شأنه قضاء نهائياً قبل أن يسمع منه، ويتبين عذره.. ومن ثم تبرز سمة النبي العادل: { أو ليأتيني بسلطان مبين }. أي حجة قوية توضح عذره، وتنفي المؤاخذة عنه.ويسدل الستار على هذا المشهد الأول في القصة (أو لعله كان ما يزال قائماً) ويحضر الهدهد. ومعه نبأ عظيم، بل مفاجأة ضخمة لسليمان، ولنا نحن الذين نشهد أحداث الرواية الآن!{ فمكث غير بعيد فقال: أحطت بما لم تحط به، وجئتك من سبأ بنبأ يقين. إني وجدت امرأة تملكهم، وأوتيت من كل شيء، ولها عرش عظيم. وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله، وزين لهم الشيطان أعمالهم، فصدهم عن السبيل، فهم لا يهتدون ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض، ويعلم ما تخفون وما تعلنون. الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم }..إنه يعرف حزم الملك وشدته. فهو يبدأ حديثه بمفاجأة تطغى على موضوع غيبته، وتضمن إصغاء الملك له: { أحطت بما لم تحط به، وجئتك من سبأ بنبأ يقين }.. فأي ملك لا يستمع وأحد رعاياه يقول له: { أحطت بما لم تحط به }؟!فإذا ضمن إصغاء الملك بعد هذه المفاجأة أخذ في تفصيل النبأ اليقين الذي جاء به من سبأ ـ ومملكة سبأ تقع في جنوب الجزيرة باليمن ـ فذكر أنه وجدهم تحكمهم امرأة، { أوتيت من كل شيء } وهي كناية عن عظمة ملكها وثرائها وتوافر أسباب الحضارة والقوة والمتاع. { ولها عرش عظيم }. أي سرير ملك فخم ضخم، يدل على الغنى والترف وارتقاء الصناعة. وذكر أنه وجد الملكة وقومها { يسجدون للشمس من دون الله } وهنا يعلل ضلال القوم بأن الشيطان زين لهم أعمالهم، فأضلهم، فهم لا يهتدون إلى عبادة الله العليم الخبير { الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض }. والخبء: المخبوء إجمالاً سواء أكان هو مطر السماء ونبات الأرض، أم كان هو أسرار السماوات والأرض. وهي كناية عن كل مخبوء وراء ستار الغيب في الكون العريض. { ويعلم ما تخفون وما تعلنون } وهي مقابلة للخبء في السماوات والأرض بالخبء في أطواء النفس. ما ظهر منه وما بطن.والهدهد إلى هذه اللحظة يقف موقف المذنب، الذي لم يقض الملك في أمره بعد؛ فهو يلمح في ختام النبأ الذي يقصه، إلى الله الملك القهار، رب الجميع، صاحب العرش العظيم، الذي لا تقاس إليه عروش البشر. ذلك كي يطامن الملك من عظمته الإنسانية أمام هذه العظمة الإلهية:{ الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم }॥فيلمس قلب سليمان ـ في سياق التعقيب على صنع الملكة وقومها ـ بهذه الإشارة الخفية!ونجد أنفسنا أمام هدهد عجيب। صاحب إدراك وذكاء وإيمان، وبراعة في عرض النبأ، ويقظة إلى طبيعة موقفه، وتلميح وإيماء أريب.. فهو يدرك أن هذه ملكة وأن هؤلاء رعية. ويدرك أنهم يسجدون للشمس من دون الله. ويدرك أن السجود لا يكون إلا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض، وأنه هو رب العرش العظيم.. وما هكذا تدرك الهداهد. إنما هو هدهد خاص أوتي هذا الإدراك الخاص، على سبيل الخارقة التي تخالف المألوف.ولا يتسرع سليمان في تصديقه أو تكذيبه؛ ولا يستخفه النبأ العظيم الذي جاءه به. إنما يأخذ في تجربته، للتأكد من صحته. شأن النبي العادل والملك الحازم:{ قال: سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين. اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم، ثم تول عنهم، فانظر ماذا يرجعون }.
في ظلال القرآن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
رأيك يهمنا