الثلاثاء، 19 أبريل 2011

وقفات أمام تدبير الله لموسى - عليه السلام - في هذه السنوات العشر , وفي رحلته إلى مدين ذهابا وجيئة

لقد نقلت يد القدرة خطى موسى - عليه السلام - خطوة خطوة . مند أن كان رضيعا في المهد حتى هذه الحلقة . ألقت به في اليم ليلتقطه آل فرعون . وألقت عليه المحبة في قلب امرأته لينشأ في كنف عدوه . ودخلت به المدينة على حين غفلة من أهلها ليقتل منهم نفسا . وأرسلت إليه بالرجل المؤمن من آل فرعون ليحذره وينصحه بالخروج منها . وصاحبته في الطريق الصحراوي من مصر إلى مدين وهو وحيد مطارد على غير زاد ولا استعداد . وجمعته بالشيخ الكبير ليأجره هذه السنوات العشر . ثم ليعود بعدها فيتلقى التكليف . .
هذا خط طويل من الرعاية والتوجيه , ومن التلقي والتجريب , قبل النداء وقبل التكليف . . تجربة الرعاية والحب والتدليل . وتجربة الاندفاع تحت ضغط الغيظ الحبيس , وتجربة الندم والتحرج والاستغفار . وتجربة الخوف والمطاردة والفزع . وتجربة الغربة والوحدة والجوع . وتجربة الخدمة ورعي الغنم بعد حياة القصور . وما يتخلل هذه التجارب الضخمة من شتى التجارب الصغيرة , والمشاعر المتباينة , والخوالج والخواطر , والإدراك والمعرفة . . إلى جانب ما آتاه الله حين بلغ أشده من العلم والحكمة .
إن الرسالة تكليف ضخم شاق متعدد الجوانب والتبعات ; يحتاج صاحبه إلى زاد ضخم من التجارب والإدراك والمعرفة والتذوق في واقع الحياة العملي , إلى جانب هبة الله اللدنية , ووحيه وتوجيهه للقلب والضمير .
ورسالة موسى بالذات قد تكون أضخم تكليف تلقاه بشر - عدا رسالة محمد . [ ص ] فهو مرسل إلى فرعون الطاغية المتجبر , أعتى ملوك الأرض في زمانه , وأقدمهم عرشا , وأثبتهم ملكا , وأعرقهم حضارة , وأشدهم تعبدا للخلق واستعلاء في الأرض .
وهو مرسل لاستنقاذ قوم قد شربوا من كؤوس الذل حتى استمرأوا مذاقه , فمردوا عليه واستكانوا دهرا طويلا . والذل يفسد الفطرة البشرية حتى تأسن وتتعفن ; ويذهب بما فيها من الخير والجمال والتطلع ومن الاشمئزاز من العفن والنتن والرجس والدنس . فاستنقاذ قوم كهؤلا ء عمل شاق عسير .
وهو مرسل إلى قوم لهم عقيدة قديمة ; انحرفوا عنها , وفسدت صورتها في قلوبهم . فلا هي قلوب خامة تتقبل العقيدة الجديدة ببراءة وسلامة ; ولا هي باقية على عقيدتها القديمة . ومعالجة مثل هذه القلوب شاقة عسيرة . والالتواءات فيها والرواسب والانحرافات تزيد المهمة مشقة وعسرا .
وهو في اختصار مرسل لإعادة بناء أمة , بل لإنشائها من الأساس . فلأول مرة يصبح بنو إسرائيل شعبا مستقلا , له حياة خاصة , تحكمها رسالة . وإنشاء الأمم عمل ضخم شاق عسير .
ولعله لهذا المعنى كان عناية القرآن الكريم بهذه القصة , فهي نموذج كامل لبناء أمة على أساس دعوة , وما يعترض هذا العمل من عقبات خارجية وداخلية . وما يعتوره من انحرافات وانطباعات وتجارب وعراقيل .
فأما تجربة السنوات العشر فقد جاءت لتفصل بين حياة القصور التي نشأ فيها موسى - عليه السلام - وحياة الجهد الشاق في الدعوة وتكاليفها العسيرة .
وإن لحياة القصور جوا خاصا , وتقاليد خاصة , وظلالا خاصة تلقيها على النفس وتطبعها بها مهما تكن هذه النفس من المعرفة والإدراك والشفافية . والرسالة معاناة لجماهير من الناس فيهم الغني والفقير , والواجد والمحروم , وفيهم النظيف والوسخ , والمهذب والخشن ; وفيهم الطيب والخبيث والخير والشرير . وفيهم القوي والضعيف , والصابر والجزوع . . وفيهم وفيهم . . وللفقراء عادات خاصة في أكلهم وشربهم ولبسهم ومشيهم , وطريقة فهمهم للأمور , وطريقة تصورهم للحياة , وطريقة حديثهم وحركتهم , وطريقة تعبيرهم عن مشاعرهم . . وهذه العادات تثقل على نفوس المنعمين ومشاعر الذين تربوا في القصور ; ولا يكادون يطيقون رؤيتها فضلا على معاناتها وعلاجها , مهما تكن قلوب هؤلاء الفقراء عامرة بالخير مستعدة للصلاح , لأن مظهرهم وطبيعةعاداتهم لا تفسح لهم في قلوب أهل القصور !
وللرسالة تكاليفها من المشقة والتجرد والشظف أحيانا . . وقلوب أهل القصور - مهما تكن مستعدة للتضحية بما اعتادته من الخفض والدعة والمتعة - لا تصبر طويلا على الخشونة والحرمان والمشقة عند معاناتها في واقع الحياة
فشاءت القدرة التي تنقل خطى موسى - عليه السلام - أن تخفض مما اعتادته نفسه من تلك الحياة ; وأن تزج به في مجتمع الرعاة , وأن تجعله يستشعر النعمة في أن يكون راعي غنم يجد القوت والمأوى , بعد الخوف والمطاردة والمشقة والجوع . وأن ينزع من حسه روح الاشمئزاز من الفقر والفقراء , وروح التأفف من عاداتهم وأخلاقهم وخشونتهم وسذاجتهم ; وروح الاستعلاء على جهلهم وفقرهم ورثاثة هيئتهم ومجموعة عاداتهم وتقاليدهم . وأن تلقي به في خضم الحياة كبيرا بعد ما ألقت به في خضم الأمواج صغيرا , ليمرن على تكاليف دعوته قبل أن يتلقاها . .
فلما أن استكملت نفس موسى - عليه السلام - تجاربها , وأكملت مرانتها ودربتها , بهذه التجربة الأخيرة في دار الغربة , قادت يد القدرة خطاه مرة أخرى عائدة به إلى مهبط رأسه , ومقر أهله وقومه , ومجال رسالته وعمله , سالكة به الطريق التي سلكها أول مرة وحيدا طريدا خائفا يتلفت . فما هذه الجيئة والذهوب في ذات الطريق ? إنها التدريب والمرانة والخبرة حتى بشعاب الطريق . الطريق الذي سيقود فيه موسى خطى قومه بأمر ربه . كي يستكمل صفات الرائد وخبرته , حتى لا يعتمد على غيره ولو في ريادة الطريق . فقومه كانوا في حاجة إلى رائد يقودهم في الصغيرة والكبيرة , بعد أن أفسدهم الذل والقسوة والتسخير ; حتى فقدوا القدرة على التدبير والتفكير .
وهكذا ندرك كيف صنع موسى على عين الله , وكيف أعدته القدرة لتلقي التكليف . فلنتبع خطى موسى تنقلها يد القدرة الكبرى , في طريقه إلى هذا التكليف .
في ظلال القرآن
سيد قطب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

رأيك يهمنا